للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ " (١) ثُمَّ قَالَ: (يَا بني أَقِمِ الصَّلَاةَ) أَيْ أَدِّهَا بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مِنْ حُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا وَمَا شُرِعَ فِيهَا واجتنب ما ينهي عَنْهُ فِيهَا.

ثُمَّ

قَالَ: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أَيْ بِجُهْدِكَ وَطَاقَتِكَ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِالْيَدِ فَبِالْيَدِ، وَإِلَّا فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يُعَادَى وَيُنَالَ مِنْهُ، وَلَكِنَّ لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ وَقَوْلُهُ: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ عَنْهَا.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان: ١٨] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ وَتُمِيلُ خَدَّكَ حَالَ كَلَامِكَ لَهُمْ وَكَلَامِهِمْ لَكَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَالِازْدِرَاءِ لَهُمْ.

قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الصَّعَرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ في أعناقها فتلتوي رؤوسها فَشَبَّهَ بِهِ الرَّجُلَ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يَمِيلُ وَجْهُهُ إِذَا كَلَّمَ النَّاسَ أَوْ كَلَّمُوهُ عَلَى وَجْهِ التعظم عَلَيْهِمْ.

قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ: وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً * إِذَا مَا ثَنَوْا صُعر الخدود نقيمها وقال عمرو بن حيي (٢) التَّغْلِبِيُّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ * أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا (٣) وَقَوْلُهُ: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) يَنْهَاهُ عَنِ التَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: ٣٧] .

يَعْنِي لَسْتَ بِسُرْعَةِ مَشْيِكَ تَقْطَعُ الْبِلَادَ فِي مشيتك هذه، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الْأَرْضَ بِوَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ بِتَشَامُخِكَ وَتَعَاظُمِكَ وَتَرَفُّعِكَ تَبْلُغُ الْجِبَالَ طُولًا، فَاتَّئِدْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَسْتَ تَعْدُوَ قَدْرَكَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا، إِذْ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة (٤)


(١) مسند أحمد ٣ / ٢٨.
(٢) في القرطبي: حنى التغلبي.
(٣) قال ابن عطية: تقوما خطأ لان قافية الشعر مخفوضة وقبله في معجم الشعراء للمرزباني:
تعاطى الملوك الحق ما قصدوا بنا * وليس علينا قتلهم بمجرم وقال المرزباني وهذا البيت - بيت الشاهد ; يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال ولن ترى * أخا كرم إلا بأن يتكرما (٤) أخرجه البخاري في كتاب اللباس (٥) وكتاب الانبياء (٥٤) ومسلم في كتاب اللباس ٤٩ - ٥٠ والنسائي في الزينة (١٠١) وابن ماجة في الفتن ٢٢ والدارمي في المقدمة (٤٠) وأحمد في مسنده ٢ / ٦٦ - ٢٦٧ - ٣١٥، ٣٩٠، ٤١٣، ٤٥٦، ٤٦٧، ٥٣١، ٣ / ٤٠.
[*]

<<  <  ج: ص:  >  >>