ونابذوا السلطان الكامل، وعدّوا عليه مساويه، وقتل بعض الأمراء، وفر الكامل وأنصاره فاختيط عَلَيْهِ.
وَخَرَجَ أَرْغُونُ الْعَلَائِيُّ زَوْجُ ابْنَتِهِ وَاسْتَظْهَرَ أَيْضًا أَمِيرَ حَاجِّي فَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ وَلَقَّبُوهُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ (١) ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى النَّائِبِ بِذَلِكَ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ عِنْدَهُ، وَبُعِثَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ فَامْتَنَعَ مِنْ ضَرْبِهَا، وَكَانَ قَدْ طُلِبَ إِلَى الْوِطَاقِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْقَلْعَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَاخْتَبَطَ الْبَلَدُ، وَتَقَلَّصَ وُجُودُ الْخَيْرِ، وَحُصِّنَتِ الْقَلْعَةُ وَدَعَوْا لِلْكَامِلِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً عَلَى الْعَادَةِ، وَأَرْجَفَ الْعَامَّةُ بِالْجَيْشِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي كثرة فصولهم، فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ أَذِيَّةٌ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ الشَّهْرِ قَدِمَ نَائِبُ حَمَاةَ إِلَى دِمَشْقَ مطيعاً لنائب السلطنة في تجمل وأبهة، ثم أجريت له عَادَةُ أَمْثَالِهِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وُقِّعَتْ بِطَاقَةٌ بِقُدُومِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْغَرَا حَاجِبِ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِأَجْلِ الْبَيْعَةِ لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرَ بِالْوِطَاقِ، وَأُمِرَ بِتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَزَيَّنَ النَّاسُ وَلَيْسُوا مُنْشَرِحِينَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ، وَأَنَّ التَّجَارِيدَ الْمِصْرِيَّةَ وَاصِلَةٌ قَرِيبًا.
وَامْتَنَعَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ مِنْ دَقِّ الْبَشَائِرِ وَبَالَغَ فِي تَحْصِينِ الْقَلْعَةِ، وَغَلْقِ بَابِهَا، فَلَا يُفْتَحُ إِلَّا الْخَوْخَةُ الْبَرَّانِيَّةُ وَالْجَوَّانِيَّةُ، وَهَذَا الصَّنِيعُ هُوَ الَّذِي يُشَوِّشُ خَوَاطِرَ الْعَامَّةِ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ ثم شئ لَهُ صِحَّةٌ كَانَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ يَطَّلِعُ عَلَى هَذَا قَبْلَ الْوِطَاقِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْغَرَا إِلَى الْوِطَاقِ، وَقَدْ تَلَقَّوْهُ وَعَظَّمُوهُ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ مِنَ الْمُظَفَّرِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكِتَابٌ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِالسَّلَامِ.
ففرحوا بذلك وبايعوه وانضمت الْكَلِمَةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَرَكِبَ بَيْغَرَا إِلَى الْقَلْعَةِ فَتَرَجَّلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ وَدَخَلَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ فبايعه سريعاً ودقت البشائر في القعلة بَعْدَ الْمَغْرِبِ، حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَطَابَتْ أَنْفُسُ الناس ثم أصبحت القعلة فِي الزِّينَةِ وَزَادَتِ الزِّينَةُ فِي الْبَلَدِ وَفَرِحَ النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ حَادِيَ عَشَرَ الشَّهْرِ دَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنَ الْوِطَاقِ إِلَى البلد والأطلاب بين يديه في تجمل وطبل خانات عَلَى عَادَةِ الْعَرْضِ، وَقَدْ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ إلى الفرجة، وَخَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقَدْ صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ صَبِيٌّ عُمُرُهُ سِتُّ سِنِينَ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ وَامْتَحَنْتُهُ فَإِذَا هُوَ يُجِيدُ الْحِفْظَ وَالْأَدَاءَ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا يَكُونُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فرغ من بناء الحمامين الذي بَنَاهُمَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالْقُرْبِ مِنِ الثَّابِتِيَّةِ فِي خَانِ السُّلْطَانِ الْعَتِيقِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الرِّبَاعِ وَالْقِرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَهُ اجْتَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَوَكِيلُ بيت المال والدولة عند تل المستقين، مِنْ أَجْلِ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ قَدْ عَزَمَ على بناء
(١) وذلك يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، وله من العمر خمس عشرة سنة (السلوك ٢ / ٧١٤) .