للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإما أن تكفه عنا، وأما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؟ فقال لهم أبو طالب: قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى (١) الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا. وأكثرت قريش ذكر رسول الله بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه، ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى. فقالوا [له]: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا [له]- ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا باسلام رسول الله ولا خذلانه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني، فقالوا كذا وكذا الذي قالوا له، فابق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه بدو (٢) وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه قال فقال له رسول الله : " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته " قال: ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب. فقال: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله . فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشئ أبدا. قال ابن إسحاق ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك؟ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل! قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؟ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك - أو كما قال - فحقب (٣) الامر، وحميت


(١) من السيرة، وفي الأصول سرى، وشرى الامر: كثر واشتد.
(٢) في السيرة: بداء، والبداء الاسم من بدا والمراد: ظهر له رأي.
(٣) حقب الامر: زاد واشتد، وهو من قولك. حقب البعير: إذا راغ عنه الحقب من شدة الجهد والنصب وإذا عسر عليه البول أيضا لشدة الحقب على ذلك الموضع.

<<  <  ج: ص:  >  >>