بطريقته المعهودة والمحببة إلى النفوس حتى نفوس مرتكبي الخطيئة، كان يرسلها إشارات عامة في دروسه العامة فكم معروف قام، وكم منكر زال بتلك الإِشارات الحكيمة. رحمه الله رحمة الأبرار. حقًّا لقد مات الشيخ العالم العامل الورع الزاهد ذو اليد البيضاء التي ترفعت عن أكل الحرام أو المشتبه كما ترفع قلبه الكبير ونفسه الزكية عن الحقد والحسد وصغرت في عينيه الدنيا بما فيها. حقًّا لقد مات العالم القدوة في الأعمال قبل الأقوال. حقًّا لقد مات الشيخ محمد العلي التركي الذي يفخر الطالب بالانتساب إليه ولو لم يجلس معه إلَّا مجلسًا واحدًا. مات الشيخ الذي يرى فيه طلابه أبًا ودودًا ويراهم أبناء بررة. نعم غيب الشيخ محمد العلي رحمه الله في الثرى وغيبت معه كنوز العلم. وإنَّ موته خسارة لا تقدر كما قيل:
إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الإِسلام ثلمه
مات الشيخ الذي لا يجابي ولا يخدع. كان رحمه الله صريحًا في أمره صريحًا في نهيه صريحًا في نصحه شجاعًا في ذلك كله. نعم إنَّك لتعجب إذا رأيته أمامك في أطمار وعباءة عمرها عشرون سنة ودريهمات حمر في جيبه يقتات بها قوت الزاهدين. نعم تعجب عندما ترى ذلك الجسد النحيل الذي لا يزن أكثر من ستين رطلًا في تلك الأطمار البالية كيف يضم بين جنبيه ذلك البحر العباب من العلم وذلك القلب الكبير والصدر الرحب الذي لا يضيق بالسائلين وما أكثرهم، فلا يخرج من بيته معتمدًا المسجد ولا غيره إلَّا ترى هذا عن يمينه وهذا من شماله يتناوبه السائلون في شتى الأسئلة حتى مشاكل دنياهم فيصدرون عن معين لا ينضب وهكذا حاله في المسجد ما أن يلتفت من صلاته إلَّا هذا قائم من عنده وهذا جالس لديه فلست تراه إلَّا مصليًا أو تاليًا كتاب الله أو ذاكرًا حزبه أو مجيبًا على سؤال. وهذه ثروته ولم يخلف رحمه الله دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا ولا شيئًا يقتنى، وإنَّما خلف الذكر الحسن الذي ستتناقله الأجيال ويبقى ما بقي ذكر أهل الخير.