للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا.

وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ [وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا] ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ فِي دَارِهِ يُقَالُ لَهُ مَنَاةُ (١) كَمَا كانت الأشراف يصنعون، تتخذه إلهاً يعظمه ويظهره، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ، ابْنُهُ مُعَاذٌ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ، فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حَفْرِ بَنِي سَلِمَةَ وَفِيهَا عِذَرُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ ثُمَّ يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فعل بك هذا لَأُخْزِيَنَّهُ.

فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فلمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ، اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْهُ يَوْمًا، فَغَسْلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ.

ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، هذا السَّيْفُ مَعَكَ.

فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ ألْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ، فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ النَّاسِ وَغَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتَّبِعُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ وكلَّمه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ [رجال] قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَيَشْكُرُ اللَّهَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فيه من العمى والضلالة ويقول: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ * أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ أُفٍّ لِمَلْقَاكَ إِلَهًا مستدِن * الْآنَ فتَّشناك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ (٢) الحمدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ * الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ ديَّان الدِّين (٣)

هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أن * أكونَ في ظلمة قبر مرتهن


(١) مناة: مأخوذ من قولك: منيت الدم وغيره، إذا صببته، لان الدماء كانت تمنى عنده تقربا إليه، ومنه سميت الاصنام الدمى.
(٢) مستدن: مستدن، من السدانة، وهي خدمة البيت وتعظيمه، قاله السهيلي، وقال أبو ذر في شرح السيرة: المستدن: الذليل.
(٣) قال السهيلي: الدين: في قوله ديان الدين: جمع دينة وهي العادة.
ويجوز أن يكون أراد: الاديان أي هو ديان أهل الاديان، وجمعها على الدين لانها ملل ونحل كما قالوا في جمع حرة: حرائر.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>