للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق مِنْهَا عِيسَى * وَمِنْ خَصَائِصِهِ وأمَّه أنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ حِينَ وُلِدَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحيح، وَمِنْ خصائصه أنَّه حيٌّ لم يمت، وهو الْآنَ بِجَسَدِهِ فِي السَّماء الدُّنيا، وَسَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ الشَّرقية بِدِمَشْقَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَيَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّريعة المحمَّدية ثمَّ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ بِالْحُجْرَةِ النَّبويَّة، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ بسطنا ذلك في قصَّته * وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الزَّملكانيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وأمَّا مُعْجِزَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمِنْهَا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وللنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَإِحْيَاءُ الْجَمَادِ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كلَّم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم الذِّراع الْمَسْمُومَةَ، وَهَذَا الْإِحْيَاءُ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا، أنَّه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته، وَهَذَا مُعْجِزٌ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْبَدَنِ، الثَّاني: أنَّه أَحْيَاهُ وَحْدَهُ مُنْفَصِلًا عَنْ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ مَعَ مَوْتِ الْبَقِيَّةِ، الثَّالث: أنَّه أَعَادَ عَلَيْهِ الْحَيَاةَ مَعَ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، وَلَمْ يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الَّذِي هُوَ جُزْؤُهُ ممَّا يَتَكَلَّمُ (١) ، وَفِي هَذَا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَيَاةِ الطُّيور الَّتِي أحياها الله لإبراهيم عليه السلام * قُلْتُ: وَفِي حُلُولِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ فِي الْحَجَرِ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بالسَّلام عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنَ الْمُعْجِزِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ فِي الْجُمْلَةِ، لأنَّه كَانَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فِي وَقْتٍ: بِخِلَافِ هَذَا حَيْثُ لَا حَيَاةَ لَهُ بالكليَّة قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الْأَحْجَارِ وَالْمَدَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَشْجَارُ وَالْأَغْصَانُ وشهادتها بالرِّسالة، وحنين الجذع * وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ أَبِي الدُّنيا كِتَابًا فِيمَنْ عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَثِيرًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ

مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ يَعْقِلُ فَلَمْ نَبْرَحْ حتَّى قُبِضَ، فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وسجَّيناه، وَلَهُ أمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا بَعْضُنَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ احْتَسِبِي مُصِيبَتَكِ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ أَمَاتَ ابْنِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَتْ: أحقٌّ ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدَّت يدها إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتِ: اللَّهم إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِكَ رَجَاءَ أَنْ تعينني عِنْدَ كلِّ شدَّة وَرَخَاءٍ، فَلَا تحمِّلني هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ.

قَالَ: فَكَشَفَ الرَّجل عَنْ وَجْهِهِ وَقَعَدَ، وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى أَكَلْنَا مَعَهُ * وَهَذِهِ القصَّة قَدْ تقدَّم التَّنبيه عَلَيْهَا فِي دَلَائِلِ النبوة.

وقد ذِكْرِ مُعْجِزِ الطُّوفان مَعَ قصَّة الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ * وَهَذَا السِّياق الَّذِي أَوْرَدَهُ شَيْخُنَا ذَكَرَ بَعْضَهُ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا، وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُرِّيِّ - أَحَدِ زهَّاد الْبَصْرَةِ وعبَّادها - وَفِي حَدِيثِهِ لِينٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ.

وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ أنَّ أمَّه كَانَتْ عَجُوزًا عَمْيَاءَ ثمَّ سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ أَنَسٍ كما تقدم (٢) ، وسياقه أتم، وفيه


(١) كذا بالاصل، وفي هامش طبعة دار السعادة: لعل الصواب " ولم يكن هذا الحيوان الذي هو جزؤه يعقل في حياته ولا مما يتكلم.
".
(٢) انظر الخبر في الدلائل ج ٦ / ٥١ - ٥٢.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>