للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

راحلة له فنزل في تبوك فَالْتَفَتَ فَإِذَا عَلَى الرَّاحِلَةِ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَتَنَحَّى عَنْهَا فَرَكِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَاحِلَتَهُ وَمَضَى، قَالَ فَنَادَاهُ: والله يا بن الزُّبَيْرِ لَوْ دَخَلَ قَلْبَكَ اللَّيْلَةَ مِنِّي شَعْرَةٌ لَخَبَلْتُكَ، قَالَ: وَمِنْكَ أَنْتَ يَا لَعِينُ يَدْخُلُ قلبي شئ؟ وَقَدْ رُوِيَ لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى جَيِّدَةٍ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي رَكْبٍ من قريش فلما كانوا عند الينا صب (١) أَبْصَرُوا رَجُلًا عِنْدَ شَجَرَةٍ، فَتَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الزُّبير، فلمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ وَرَدَّ رَدًّا ضَعِيفًا، وَنَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَنَحَّ عَنِ الظِّلِّ، فَانْحَازَ مُتَكَارِهًا، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَلَسْتُ وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَقَلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، فَمَا عَدَا أَنْ قَالَهَا حَتَّى قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنِّي فَاجْتَذَبْتُهُ وَقَلْتُ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ وَتَبْدُو إلي هكذا؟ وإذا له سفلة وانكسر ونهرته وقلت: إليّ تتبدا وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ هَارِبًا وَجَاءَ أَصْحَابِي فَقَالُوا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ؟ فَقُلْتُ: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَهَرَبَ.

قَالَ: فَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَشَدَدْتُهُ على راحلته حتى أتيت بهم الحج وَمَا يَعْقِلُونَ.

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا نِسْوَةٌ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ فَأَعْجَبْنَنِي، فَلَمَّا قَضَيْنَ طَوَافَهُنَّ خَرَجْنَ فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِنَّ لِأَعْلَمَ أَيْنَ مَنْزِلُهُنَّ، فَخَرَجْنَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيْنَ الْعَقَبَةَ ثُمَّ انحدرن حتى أتين فجا فدخلن خَرِبَةٍ فَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِنَّ.

فَإِذَا مَشْيَخَةٌ جُلُوسٌ فقالوا: ما جاء بك يا بن الزُّبَيْرِ؟ فَقُلْتُ: أَشْتَهِي رُطَبًا، وَمَا بِمَكَّةَ يومئذٍ مِنْ

رُطَبَةٍ، فَأَتَوْنِي بِرُطَبٍ فَأَكَلْتُ ثُمَّ قَالُوا: احْمِلْ مَا بَقِيَ مَعَكَ، فَجِئْتُ بِهِ الْمَنْزِلَ فوضعته في سفط وجعلت السَّفَطَ فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي لِأَنَامَ، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ جَلَبَةً فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيْنَ وَضَعَهُ؟ قَالُوا: فِي الصُّنْدُوقِ، فَفَتَحُوهُ فَإِذَا هُوَ فِي السَّفَطِ دَاخِلَهُ، فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّفَطَ بِمَا فِيهِ فَذَهَبُوا بِهِ، قَالَ.

فَلَمْ آسَفْ على شئ أَسَفِي كَيْفَ لَمْ أَثِبْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْبَيْتِ.

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِمَّنْ حَاجَفَ عَنْ عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ، وَجُرِحَ يومئذٍ بضع عشرة جراحة، وكان على الراجلة يَوْمَ الْجَمَلِ وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً أَيْضًا، وَقَدْ تَبَارَزَ يومئذٍ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْأَشْتَرِ، فَاتَّحَدَا فَصَرَعَ الْأَشْتَرُ ابْنَ الزبير فلم يتمكن مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُ، بَلِ احْتَضَنَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وجعل ينادي: اقتلوني ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي، فأرسلهما مَثَلًا.

ثُمَّ تَفَرَّقَا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْأَشْتَرُ، وقد قيل إنه جرح يومئذ بضع وأربعون جِرَاحَةً، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ أَعْطَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ بَشَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَسَجَدَتْ لِلَّهِ شكراً، وكانت تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ عزيزاً عليها.

وقد روى عن عروة: أن عائشة لم تكن تُحِبُّ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


(١) الينا صب: أجبل متحاذيات في ديار بني بكر أو بني أسد بنجد، بينها وبين أضاخ أربعة أميال (معجم البلدان) .
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>