وقد كان عبد الملك خطبها لابنه الوليد فأبى سعيد أن يزوجه بها، فاحتال عليه حتى ضربه بالسياط كما تقدم، لما جاءت بيعة الوليد إلى المدينة في أيَّام عبد الملك، ضربه نائبه على المدينة هشام بن إسماعيل وأطافه المدينة، وعرضوه على السيف فمضى ولم يبايع، فلما رجفوا به رأته امرأة فقالت: ما هذا الخزي يا سعيد؟ فقال: من الخزي فررنا إلى ما ترين، أي لو أحببناهم وقعنا في خزي الدنيا والآخرة.
وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتجر فيه ويقول: اللَّهم إنَّك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ الْعَنَزِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعبد الله بن عمر وغيرهم، وعنه حميد الطويل والأعمش وطاووس، وهو من أقرانه وأثنى عليه عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أنَّه كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ، وَقَدْ كَانَ ممن خرج مع ابن الأشعث، وكان يقول تقووا بِالتَّقْوَى، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا التَّقْوَى، فَقَالَ: التقوى هي الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ يرجو رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب اللَّهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، أو يقوم بشكرها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وكان طلق لا يخرج إلى صلاة إلا ومعه شئ يتصدق به، وإن لم يجد إلا بصلاً، ويقول: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقة) [المجادلة: ١٢] فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الله أعظم وأعظم.
قَالَ مَالِكٌ: قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ بَعَثَ مِنْ مَكَّةَ ثَلَاثَةً إِلَى الْحَجَّاجِ، وَهُمْ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، فَمَاتَ طَلْقٌ فِي الطَّرِيقِ وَحُبِسَ مُجَاهِدٌ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ سَعِيدٍ مَا كَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنِ الْعَبَادِلَةِ وَمُعَاوِيَةَ وَالْمُغِيرَةِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَلْقٌ مِمَّنْ سِوَاهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ عُرْوَةُ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَالِمًا مَأْمُونًا ثَبَتًا.
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: مَدَّنِيٌّ تَابِعِيٌّ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يدخل في شئ مِنَ الْفِتَنِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا حَافِظًا ثَبَتًا حُجَّةً عَالِمًا بِالسِّيَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَعْدُودِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ، وَكَانَ أَرْوَى النَّاسِ للشعر، وقال ابنه هِشَامٍ: الْعِلْمُ لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لِذِي حَسَبٍ يزين به حسبه، أَوْ ذِي دِينٍ يَسُوسُ بِهِ دِينَهُ، أَوْ مختلط بسلطان يتحفه بنعمه ويتخلص (*)