للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فِيهِ آيَاتٍ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ، وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَإِنَّنِي وَاللَّهِ مَا انْسَلَخْتُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَكِنَّنِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ كُنْتُ رَجُلًا مُتَأَوِّلًا فِيكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ أَوْجَبَتْ لَكُمْ بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين مِنْ قَبْلِكَ ثُمَّ بِكَ مِنْ بَعْدِهِمَا، فَكُنْتُ لهما شيعة متديناً أحسبني هادياً مهتدياً، وأخطأت في التأويل وقدماً أخطأ المتأولون، وقد قال تَعَالَى: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: ٥٤] وإن أَخَاكَ السَّفَّاحَ ظَهَرَ فِي صُورَةِ مَهْدِيٍّ وَكَانَ ضالاً فأمرني أن أجد السَّيْفَ وَأَقْتُلَ بِالظِّنَّةِ وَأُقْدِمَ بِالشُّبْهَةِ وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَوَتَرْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي طاعتكم، وتوطئة سلطانكم، حتى عرّفكم الله مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَدَارَكَنِي مِنْهُ بِالنَّدَمِ وَاسْتَنْقَذَنِي بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي وَيَصْفَحْ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَإِنْ يعاقبني فبذنوني وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيد.

فكتب إليه المنصور: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الْمُجْرِمُ الْعَاصِي، فَإِنَّ أَخِي كَانَ إِمَامَ هُدًى يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بينة من ربه (١) ، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائداً، وعن الشيطان وأوامره صَادِرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْنَحْ لَكَ أَمْرَانِ إِلَّا كنت لأرشدهما تاركاً، ولأغواهما راكباً، تَقْتُلُ قَتْلَ الْفَرَاعِنَةِ، وَتَبْطِشُ بَطْشَ الْجَبَابِرَةِ، وَتَحْكُمُ بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين، ثُمَّ مِنْ خَبَرِي أَيُّهَا الْفَاسِقُ أَنِّي قَدْ وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بِنَيْسَابُورَ، فَإِنْ أَرَدْتَ خُرَاسَانَ لَقِيَكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُوَّادِي وَشِيعَتِي، وَأَنَا مُوَجِّهٌ لِلِقَائِكَ أَقْرَانَكَ، فَاجْمَعْ كَيْدَكَ وَأَمْرَكَ غَيْرَ مُسَدَّدٍ وَلَا مُوَفَّقٍ، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (٢) .

وَلَمْ يَزَلِ الْمَنْصُورُ يُرَاسِلُهُ تَارَةً بِالرَّغْبَةِ وَتَارَةً بِالرَّهْبَةِ، وَيَسْتَخِفُّ أَحْلَامَ مَنْ حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سِوَى أَمِيرٍ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ نَيْزَكُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، فلمَّا رَأَى أَبَا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عند ذلك البيت المتقدم، وهو: مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ * ذَهَبَ الْقَضَاءُ بحيلة الأقوام وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لَمَّا قَدِمَ الْمَدَائِنَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَمَا وَصَلَ إِلَّا آخِرَ النَّهَارِ، وَقَدْ أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَظْهَرَ احْتِرَامَهُ، وَقَالَ: اذْهَبِ اللَّيْلَةَ فَأَذْهِبْ عَنْكَ


(١) في ابن الاعثم ٨ / ٢٢٣: على بصيرة ويقين من أمره.
(٢) راجع حاشية ١ صفحة ٧٠.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>