للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا إله إلا الله. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه، وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها، وكان الرشيد قد أنزله في قصره وخلطه بأهله. نبهه الرشيد يوما إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد وهو يقرأ (وما لي لا أعبد الذي فطرني) [يس: ٢٢] فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله. فضحك الرشيد وقطع الصلاة، ثم أقبل عليه وقال: ويحك اجتنب الصلاة والقرآن وقل فيما عدا ذلك. ودخل يوما العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب، فجعل يمدحها ويزيد في شكرها، وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له، فقال له العباس: ويحك! جئت بشئ منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته. فحلف ابن أبي مريم ليطيبن به استه، ثم أخذ منها شيئا فطلى به استه ودهن جوارحه كلها منها، والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك. ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان: اطلب لي غلامي. فقال الرشيد: ادع له غلامه. فقال له: خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها استها حتى أرجع إليها فأنيكها. فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له: جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الذي ما تمطر السماء شيئا ولا تنبت الأرض شيئا إلا وهو تحت تصرفه وفي يده؟ وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت: ما أمرك به هذا فأنفذه. وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار، فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك. ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم.

وقد شرب الرشيد يوما دواء فسأله ابن أبي مريم أن يلي الحجابة في هذا اليوم، ومهما حصل له كان بينه وبين أمير المؤمنين، فولاه الحجابة، فجاءت الرسل بالهدايا من كل جانب، من عند زبيدة والبرامكة وكبار الأمراء، وكان حاصله في هذا اليوم ستين ألف دينار، فسأله الرشيد في اليوم الثاني عما تحصل فأخبره بذلك، فقال له: فأين نصيبي؟ فقال ابن أبي مريم: قد صالحتك عليه بعشرة آلاف تفاحة.

وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية: ما ذكرت عنده حديثا إلا قال صلى الله وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء علي وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أمير المؤمنين. قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال: إنما أردت تعظيم العلم. وحدثه أبو معاوية يوما عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عم الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا، وقال: أتعترض على الحديث؟ علي بالنطع والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه فقال الرشيد: هذه زندقة. ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا،

<<  <  ج: ص:  >  >>