فأقسم عمه بالايمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها. فأطلقه.
وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله ﷿. وقال بعض أهل العلم: يا أمير المؤمنين انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك، فقال الرشيد: أو لست كذلك؟ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما. وقال له ابن السماك: إن الله لم يجعل أحدا فوقك فاجتهد أن لا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك. فقال: لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة.
وقال له الفضيل بن عياض - أو غيره - إن الله لم يجعل أحدا من هؤلاء فوقك في الدنيا، فاجهد نفسك أن لا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة، فاكدح لنفسك وأعملها في طاعة ربك. ودخل عليه ابن السماك يوما فاستسقى الرشيد فاتي بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين! بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها؟ فقال: بنصف ملكي. فقال: اشرب هنيئا، فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال بنصف ملكي الآخر. فقال: إن ملكا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يتنافس فيه. فبكى هارون.
وقال ابن قتيبة: ثنا الرياشي سمعت الأصمعي يقول: دخلت على الرشيد وهو يقلم أظفاره يوم الجمعة فقلت له في ذلك فقال: أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة، وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر. فقلت: يا أمير المؤمنين أو تخشى الفقر؟ فقال: يا أصمعي وهل أحد أخشى للفقر مني؟. وروى ابن عساكر عن إبراهيم المهدي قال: كنت يوما عند الرشيد فدعا طباخه فقال: أعندك في الطعام لحم جزور؟ قال: نعم، ألوان منه. فقال: أحضره مع الطعام فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه فضحك جعفر البرمكي، فترك الرشيد مضغ اللقمة وأقبل عليه فقال: مم تضحك؟ قال: لا شئ يا أمير المؤمنين، ذكرت كلاما بيني وبين جاريتي البارحة. فقال له: بحقي عليك لما أخبرتني به. فقال: حتى تأكل هذه اللقمة، فألقاها من فيه وقال: والله لتخبرني. فقال: يا أمير المؤمنين بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك؟ قال: بأربعة دراهم. قال: لا والله، يا أمير المؤمنين بل بأربعمائة ألف درهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده، فقلت: لا يخلون المطبخ من لحم جزور، فنحن ننحر كل يوم جزور لأجل مطبخ أمير المؤمنين، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور. فصرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا