للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اليوم. قال جعفر: فضحكت لان أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة. فهي على أمير المؤمنين بأربعمائة ألف.

قال: فبكى الرشيد بكاء شديدا وأمر برفع السماط من بين يديه، وأقبل على نفسه يوبخها ويقول: هلكت والله يا هارون. ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فخرج فصلى بالناس ثم رجع يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر، وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين في كل حرم ألف ألف صدقة، وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة. ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب، ثم رجع، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكيا في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته، وإنما ناله منها لقمة. فقال أبو يوسف لجعفر: هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد، أو يأكله الناس؟ قال: بل يأكله الناس. فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية، وبما يسره الله عليك من الصدقة، وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم، وقد قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [الرحمن: ٤٦]. فأمر له الرشيد بأربعمائة ألف. ثم استدعى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء.

وقال عمرو بن بحر الجاحظ: اجتمع للرشيد من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده، كان أبو يوسف قاضيه، والبرامكة وزراءه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأشدهم تعاظما، ونديمه عمر بن العباس بن محمد صاحب العباسية. وشاعره مروان بن أبي حفصة، ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته، ومضحكه ابن أبي مريم، وزامره برصوما. وزوجته أم جعفر - يعني زبيدة - وكانت أرغب الناس في كل خير وأسرعهم إلى كل بر ومعروف، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك، إلى أشياء من المعروف أجراها الله على يدها.

وروى الخطيب البغدادي أن الرشيد كان يقول: إنا من قوم عظمت رزيتهم، وحسنت بعثتهم، ورثنا رسول الله وبقيت فينا خلافة الله. وبينما الرشيد يطوف يوما بالبيت إذ عرض له رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة، فقال: لا ولا نعمت عين قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره أن يقول له قولا لينا. وعن شعيب بن حرب قال: رأيت الرشيد في طريق مكة فقلت في نفسي: قد وجب عليك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخوفتني فقالت: إنه الآن يضرب عنقك. فقلت: لا بد من ذلك، فناديته فقلت: يا هارون! قد أتعبت الأمة والبهائم، فقال: خذوه. فأدخلت عليه وفي يده لت (١) من حديد يلعب به وهو جالس على كرسي،


(١) اللت: مصدر. وهي القدوم والفأس العظيمة. وهي فارسية (محيط المحيط).

<<  <  ج: ص:  >  >>