للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى مَلِكُ الْعَرَبِ إِلَى السِّجْنِ بِنَفْسِهِ وَأَقْسَمَ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ لَيَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّ مَعَهُ إِلَى دَارِ سَلَّارَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِدَارِ سَلَّارَ وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ بُحُوثٌ كَثِيرَةٌ.

ثُمَّ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا إِلَى الْمَغْرِبِ وَبَاتَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عِنْدَ سَلَّارَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ بَلِ اجْتَمَعَ مِنَ الْفُقَهَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ يوم، منهم الفقيه نجم

الدين بن رفع وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بِنْتِ أَبِي سَعْدٍ، وَعِزُّ الدِّينِ النِّمْرَاوَيُّ، وَشَمْسُ الدين بن عدنان وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَطَلَبُوا الْقُضَاةَ فَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ، بَعْضُهُمْ بِالْمَرَضِ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا ابْنُ تيمية منطوي عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَدِلَّةِ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْحَاضِرِينَ لَا يُطِيقُهُ، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْحُضُورَ بَعْدَ أَنْ رَسَمَ السُّلْطَانُ بحضورهم أو بفصل الْمَجْلِسُ عَلَى خَيْرٍ، وَبَاتَ الشَّيْخُ عِنْدَ نَائِبِ السلطنة وجاء الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فَأَشَارَ سَلَّارُ بِإِقَامَةِ الشَّيْخِ بِمِصْرَ عِنْدَهُ لِيَرَى النَّاسُ فَضْلَهُ وَعِلْمَهُ، وَيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهِ وَيَشْتَغِلُوا عَلَيْهِ.

وَكَتَبَ الشَّيْخُ كِتَابًا إِلَى الشَّامِ يَتَضَمَّنُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ.

قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا شَكَى الصُّوفِيَّةُ بِالْقَاهِرَةِ عَلَى الشيخ تقي الدين وكلموه فِي ابْنِ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِ إِلَى الدَّوْلَةِ، فَرَدُّوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ وَادَّعَى عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ بِأَشْيَاءَ فلم يثبت عليه منها شئ، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، وَلَكِنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ وَيُتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى اللَّهِ (١) فَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا شئ، وَرَأَى الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ أَنَّ هَذَا فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ، فَحَضَرَتْ رِسَالَةٌ إِلَى الْقَاضِي أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، فَقَالَ الْقَاضِي قَدْ قُلْتُ لَهُ مَا يُقَالُ لِمِثْلِهِ، ثُمَّ إِنَّ الدَّوْلَةَ خَيَّرُوهُ بَيْنَ أَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ يَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ أَوِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِشُرُوطٍ أَوِ الْحَبْسِ، فَاخْتَارَ الْحَبْسَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي السَّفَرِ إِلَى دِمَشْقَ مُلْتَزِمًا مَا شُرِطَ، فَأَجَابَ أَصْحَابَهُ إِلَى مَا اخْتَارُوا جَبْرًا لِخَوَاطِرِهِمْ، فَرَكِبَ خَيْلَ الْبَرِيدِ لَيْلَةَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ أَرْسَلُوا خَلْفَهُ مِنَ الْغَدِ بريداً آخرا، فَرَدُّوهُ وَحَضَرَ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ جَمَاعَةَ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الدَّوْلَةَ مَا تَرْضَى إِلَّا بِالْحَبْسِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ مُصْلِحَةٌ لَهُ، وَاسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ التُّونِسِيَّ الْمَالِكِيَّ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شي، فَأَذِنَ لِنُورِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ الْمَالِكِيِّ فَتَحَيَّرَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْخُ تَوَقُّفَهُمْ فِي حَبْسِهِ قَالَ أَنَا أَمْضِي إِلَى الْحَبْسِ وَأَتَّبِعُ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُصْلِحَةُ، فقال نور الدين الزواوي: يكوفي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ فَقِيلَ لَهُ الدَّوْلَةُ مَا تَرْضَى إِلَّا بِمُسَمَّى الْحَبْسِ، فَأُرْسِلَ إِلَى حَبْسِ القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بِنْتِ الْأَعَزِّ حِينَ سُجِنَ، وَأُذِنَ لَهُ أَنْ

يَكُونَ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ نَصْرِ الْمَنْبِجِيِّ لِوَجَاهَتِهِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى عَقْلِ الْجَاشْنَكِيرِ الَّذِي تَسَلْطَنَ فِيمَا بَعْدُ، وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوْلَةِ، وَالسُّلْطَانُ مقهور معه،


(١) في هامش المطبوعة: " المعروف في كتب ابن تيمية وترجمته لابن عبد الهادي: أنه لا يجيز هذا.
".

<<  <  ج: ص:  >  >>