للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الارهاص والتوطئة والتثبت والايناس والله أعلم.

ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة؟ فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة، والمعراج في المنام. وقد حكى المهلب (١) بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء مرتين، مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه. قال السهيلي: وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام. ودل غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الاسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات، وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الاسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى البيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات (٢).

فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السماوات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم. والعجب أن الامام أبا عبد الله البخاري ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الامر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخر ذكر موت أبي طالب على الاسراء، فالله علم أي ذلك كان. والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما


(١) في السهيلي: " ورأيت المهلب في شرح البخاري "، وليس هو المهلب الأزدي أمير خراسان.
(٢) قال صاحب الظلال في تفسير سورة الإسراء " والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله ترك راشه في بيت أم هانئ إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسرى به وعرج ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الوقعة المؤكدة في حياة الرسول والمسافة بين الاسراء والمعراج بالروح أو بالجسم وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤيا في اليقظة .. المسافة بين هذه الحالات كلا ليست بعيدة، ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة .. والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا .. ".

<<  <  ج: ص:  >  >>