أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع قصر أعمارهم وقلة أعمالهم يؤتون من الأجور ما لم يؤت الأمم السالفة مثله، وعلى هذا يشكل ما ورد (١) من أن الأجير الأول ترك العمل عند
(١) والمراد منه ما ورد عند البخاري وغيره من حديث أبي موسى مرفوعًا: مثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملاً يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقى من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور، انتهى. ولا يخفى ما في حديث الباب وحديث أبي موسى من التغاير جدًا، واختلفت الشراح في محملهما، فحاول منهم الشيخ إلى جمعهما في قضية واحدة، وإليه مال الخطابي كما حكاه عند القارئ إذ قال: قال الخطابي: يروي هذا الحديث على وجوه مختلفة في توقيت العمل من النهار، وتقدير الأجرة، ففي هذه الرواية قطع الأجرة لكل فريق قيراطًا قيراطًا، وتوقيت العمل عليهم زمانًا زمانًا، واستيفاؤه منهم وإيفاؤه الأجرة، وهذا الحديث مختصر، وإنما اكتفى الراوي منه بذكر مآل العاقبة فيما أصاب كل واحد من الفرق، وقد روى البخاري من حديث ابن عمر قال أوتى: أهل التوراة التوراة فعملوا حتى انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتى أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فهذه الرواية تدل على أن مبلغ الأجرة لليهود لعمل النهار كله قيراطان، وأجرة النصارى للنصف الباقي قيراطان، فلما عجزوا عن العمل قبل تمامه أعطوا على قدر عملهم، وهو قيراط، انتهى. وإلى الوحدة مال ابن النين إذ جمع بينهما كما حكاه عنه الحافظ باحتمال أن يكونوا غضبوا أولاً فقالوا ما قالوا طلبًا للزيادة، فلما لم يعطوا قدرًا زائدًا تركوا، فقالوا: لك ما عملنا باطل، انتهى. ومال جماعة من الشراح إلى التعدد، ومنهم الحافظ ابن حجر إذ قال: أما ما وقع من المخالفة بين حديث ابن عمر وأبي موسى فظاهرهما أنها قضيتان، وحاول بعضهم الجمع بينهما فتعسف، وقال ابن رشد ما حاصله أن حديث ابن عمر ذكر مثالاً لأهل الأعذار، لقوله: فعجزوا، وذكر حديث أبي موسى مثالاً لمن أخر بغير عذر، وإلى ذلك الإشارة بقوله: لا حاجة لنا إلى أجرك، انتهى. وقال أيضًا في موضع آخر: إنهما حديثان سيقا في قصتين، نعم وقع في رواية سالم عن ابن عمر ما يوافق رواية أبي موسى، فرجحها الخطابي على رواية نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، لكن يحتمل أن تكون القصتان جميعًا كانتا عند ابن عمر فحدث بهما في وقتين.