للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأن نفى (١) الحرج هاهنا لما كانت الأنصار والمهاجرون تحرجوا من السعي بينهما لما زعموا ذلك من أمر الجاهلية، وأما إثبات أن السعي في أي مرتبة من مراتب الأحكام المشروعة فهذا النص القرآني ساكت عنه، وبين الناس صلى الله عليه وسلم والنص الآخر وجوبه، ومعنى الآية أن السعي ليس من أمر الجاهلية كما زعمتم، وإنما هو شريعة قديمة ملة أبيكم إبراهيم، وقال: {إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} وانتفت شبهة كونه من أمر الجاهلية، وكان واجبًا كما كان من قبل، والفرق بين قول عائشة رضي الله عنها (٢) وابن عبد الرحمن رضي الله عنه أنها


(١) قال الحافظ: محصله أن عروة احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح، فلو كان واجبًا لما اكتفى بذلك لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحصل جواب عائشة رضي الله عنها أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه مصرحة برفع الإثم عن الفاعل، وأما المباح فيحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بذلك مطابقة جواب السائلين، لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه لا يستمر في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم، وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، إلى آخر ما بسطه.
(٢) هكذا قال العيني تحت رواية البخاري، ولفظها من طريق شعيب عن الزهري عن عروة: ثم أخبرت أبا بكر، فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجلاً من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا ما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله الطواف ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، الحديث. فقال العيني: إن قلت: ما وجه هذا الاستثناء؟ قلت: وجهه أنه أشار به إلى أن الرجال= =من أهل العلم الذين أخبروا أبا بكر بن عبد الرحمن أطلقوا ولم يخصوا بطائفة، وأن عائشة رضي الله تعالى عنها خصت الأنصار بذلك إلخ، وهذا هو الظاهر من كلام الحافظ في الفتح، وبسط في توجيه الروايات الدالة على أنهم تحرجوا في الإسلام، لما أنهم كانوا تحرجوا في الجاهلية أيضًا، وليت شعري ما اضطرهم على ذلك، وما المانع عن التحرج في الإسلام بشيء كانوا تحرجوا به في الجاهلية، فالظاهر عندي أن الفرق بين قول عائشة رضي الله عنها وبين ما سمعه ابن عبد الرحمن هو التغاير، ذكرت عائشة رضي الله عنها نزولها فيمن تحرجوا في الإسلام لتحرجهم في الجاهلية، وكان تحرجهم في الجاهلية لحبهم صنمهم وبغضهم هذين، وكان تحرجهم في الإسلام للبغض الطبعي المركوز فيهم من زمان الجاهلية، وعدم الذكر في القرآن، وسمع أبو بكر نزولها في من تحرجوا في الإسلام لكونه من شعائر الجاهلية أو عدم الذكر في القرآن، ثم لما سمع أبو بكر قول عائشة فرح بذلك لزيادة العلم، وعموم الآية فريقًا لم يسمع حالهم قبل ذلك، ويظهر هذا المعنى من كلام البيهقي، كما ذكره الحافظ احتمالاً، إذ قال: ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين، منهم من كان يطوف بينهما، ومنهم من كان لا يقربهما، واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف وأشار إلى نحو هذا الجمع البيهقي، انتهى. ثم قال العيني: اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال: أحدها أنه نكن لا يصح الحج إلا به، وهو قول الشافعي ومالك في المشهور عنه، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وإسحاق وأبي ثور لقوله صلى الله عليه وسلم: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من رواية صفية بنت أبي شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة بإسناد حسن، والثاني أنه واجب يجبر بالدم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي، والثالث أنه سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء وأحمد في رواية، انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>