للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في مثل ذلك أن يستقي صاحب الجهة العليا، ويستوفى حقه الذي يتعين فيما بينهم من وصول الماء إلى مبلغ معلوم تضرر بذلك صاحب السفلى أو لا، وإذا استوفى حقه أرسل الماء إلى من دونه فيستقى منه إن بقيت في الماء فضله، وكان الأنصاري يزعم في نفسه أن الحقي في الأولية إنما هو لصاحب الأسفل، فأنه لو أعلم أن الحق لصاحب الجهة العليا لما اختصم مع الزيير وأرضاه بترك استسقاء حقه والتوائه إلى ما بعد سقاية الأنصاري أرضه، فلما كان (١) كذلك وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الزيير بأمر أوهم الأنصاري كونه على حق مما يعلم فقد قال للزيير: يا زيير اسق أي قليلا حتى لا يأخذ أشجارك جفاف، ثم أرسل إلى جارك الأنصاري، فإذا استقى الأنصاري فاستوف منه نصيبك الذي كان لك أن تأخذه قبل، فزعم الأنصاري في نفسه أن هذا السقي القليل الذي رخص فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- للزيير إنما هو مراعاة لابن عمته، وأن الحق للأنصاري كما بينا لك من أنه كان يزعم الحق لصاحب الأسفل، وقوى بذلك زعمه، وحاصلة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان يأمر زييراً أن يستوفي حقه ثم يرسل إلى الأنصاري لم يكن له أن يتوهم ماتوهم، وكذلك لو أمره بالسقاية القليلة ثم ترك الماء إلى الأنصاري بعد أن يبين للأنصاري ما هو حق في ذلك لم يتوهم الأنصاري ما توهم، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أخاه زييراً بالإحسان إلى جاره بحيث لا يستضر أحد منهما ففهمه الأنصاري مراعاة منه له، فقال ما قال، وكانت تلك كبيرة منه لا أنه يكون بذلك مورداً للنفاق حتى يجترأ عليه، والله أعلم بحقيقة الحال.

قوله تعالى [لا يُؤْمِنُونَ] معناه على ما قررنا (٢) نفى كمال الإيمان لأنفي نفسه، فان


(١) يعنى فهم الأنصاري أولوية حقه لا حق الزيير.
(٢) يعني على ما بسط قبل ذلك من أن خصم الزيير كان مؤمناً أنصارياً حمله الغضب أو التوهم على ذلك، وأما عل ما قيل: إنه كان منافقاً فنفى الإيمان على ظاهره، وهذا كله إذا كان سبب نزول الآية هذه القصة، وقال الحافظ في الفتح بعد ما ذكر من قال بنزولها فيها: وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية. فزودي إسحاق بن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمى قبل أن يسلم ويصحب. رجح الطبري في تفسيره وعزاه إلى أهل التأويل في تهذيبه أن سبب نزولها هذه القصة ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد، ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزيير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية، انتهى. قال العيني: وهاهنا سبب آخر غريب جداً، قال ابن أبى حاتم بسنده إلى أبى الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انطلقا إليه، فقال الرجل: يا عمر بن الخطاب! قضى لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا، فقال ردنا إلى عمر، فردنا إليك. فقال: أكدلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضى بينكما، فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فاراً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي ولوما أني أعجزته لقتلى، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل رجل مؤمن، فأنزل الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر، انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>