للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: ٥]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول)، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها (اسْتَوَى) معداة بـ (على) معناها العلو فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول) لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، (والإيمان به واجب)، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، (والسؤال عنه بدعة) (١): السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من هم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك, فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.

وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به, واجب والسؤال عنه بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.

والإمام مالك رحمه الله قال: (ما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع, وكلامهم, واعتراضاتهم, وتقديراتهم, ومجادلاتهم.

فأنت يا أخي عليك في هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا, وأطعنا, وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر, وأطعنا الطلب, وسمعنا القول، حتى تسلم!

وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل, وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً!

وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. (٢) وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:

أولاً: أنهم قالوا: (أمروها كما جاءت) ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.

ثانياً: قوله: (بلا كيف) لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.

إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – ١/ ٩٧


(١) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص ١١٦)، والذهبي في ((العلو)) (٥٩٥). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص٧٥): صحيح.
(٢) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (٣/ ٥٢٧) (٩٣٠)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (٣/ ٢). كلاهما عن الوليد بن مسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>