ضل فريق آخر في باب القدر فقالوا: إذا كان الله عالماً بكل شيء نفعله، وعالماً بمصيرنا إلى الجنة أو النار، وكان هو الخالق لأفعالنا، فلماذا نعمل وننصب؟ ولماذا لا نترك الأقدار تجري في أَعِنَّتِهَا، وسيأتينا ما قدر لنا شئنا أم أبينا.
وقد تَعمَّقَتْ هذه الضلالة عند طوائف من العُباد والزهاد وأهل التصوف، ولم تقله طائفة واحدة بعينها من طوائف أهل المقالات، وكان ولا يزال هذا القول على ألسنة كثير من جهال المسلمين وأهل الزيغ والزندقة. وهذا الفريق يؤمن بالقدر، وأن الله عالم بكل شيء، وخالق لكل شيء، ومريد لجميع الكائنات، ولكنهم زعموا أن كل ما خلقه الله وشاءه فقد رضيه وأحبه، وزعموا أنه لا حاجة بالعباد إلى العمل والأخذ بالأسباب، فما قُدِّر لهم سيأتيهم، وزعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإنسان عندهم ليس له قدرة تؤثر في الفعل، بل هو مع القدر كالريشة في مهب الريح، وكالساقط من قمة جبل شامخ إلى واد بعيد غورهُ، سحيق قَعُره، لا يملك وهو يتردى فيه من أمره شيئاً. لقد ترك هؤلاء العمل احتجاجاً بالقدر قبل وقوعه، واحتجوا بالقدر على ما يقع منهم من أعمال مخالفة للشرع، ووصل بهم الحال إلى عدم التفريق بين الكفر والإيمان، وأهل الهدى والضلال، لأن جميع ذلك خلق الله، فلم التفريق؟ إن هذه العقيدة المنحرفة أضلت عقولاً كثيرة وانحرف مسارها عن جادة الحق والصواب، فاضطربت عندها موازين العدل والحق، وعطلت هذه العقيدة المنحرفة طاقات هائلة في العالم الإسلامي، أقعدتها عن العمل، بل جيَّرت أعمالها لمصلحة أعداء الإسلام في بعض الأحيان. لقد كان من آثار هذه العقيدة الزعم بأن الله أحب الكفر والشرك والقتل والزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من الذنوب والمعاصي، لأنهم يزعمون أن كل شيء خلقه الله وأوجده فهو يحبه ويرضاه. ومن آثارها أن أصحابها تركوا الأعمال الصالحة الخيرة التي توصلهم إلى الجنة وتنجيهم من النار، وارتكبوا كثيراً من الموبقات بدعوى أن القدر آت آت، وكل ما قدر للعبد سيصيبه، فلماذا العمل والتعب والنصب.