للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً

قال الجوهري: الهجر: ضد الوصل. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية.

والتهاجر: التقاطع. والهجرتان: هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة (١).

والهجر الشرعي نوعان:

الأول: بمعنى الترك للمنكرات. ومنه قوله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء: ١٤٠].

قال ابن كثير: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه (٢).

ومنه قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: ٦٨].

قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه وهو الصحيح. فإن العلة سماع الخوض في آيات الله وذلك يشملهم وإياه ..

ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكراً علم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه (٣).

وورد في حديث جابر بن عبد الله -الطويل- وفيه (( .. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر)) (٤) الحديث.

ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام- فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: ٢٦].

قال القرطبي: وهو أول من هاجر من أرض الكفر (٥).

وقال القرطبي أيضاً حول قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: ٢٥].

قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم .. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم (٦).

الثاني: الهجر على وجه التأديب والعقوبة، وهو هجر أهل المعاصي والمنكرات والمخالفات وهو بمنزلة التعزير، ويفعله إذا رآه أقوى في نفسية الفاعل من التغيير باليد واللسان أو إذا عجز عن التغيير باليد واللسان.

فإذا أظهر الإنسان المكلف معصيته أو عرف بها وأصر عليها سواء أكانت هذه المعصية فعلية أم قولية أم اعتقادية فمن السنة هجره، فالهاجر يثاب عليه؛ لأنه من أجل الله تعالى.


(١) ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) الجوهري (٢/ ٨٥١).
(٢) ((تفسير القرآن العظيم)) (١/ ٥٦٦، ٥٦٧).
(٣) ((الجامع لأحكام القرآن)) م٤ (٧/ ١٢).
(٤) رواه الترمذي (٢٨٠١) بلفظ: ((يدار عليهم الخمر)) بدلاً من ((يشرب عليها الخمر))، وأحمد (٣/ ٣٣٩) (١٤٦٩٢)، والدارمي (٢/ ١٥٣) (٢٠٩٢)، والحاكم (٤/ ٣٢٠)، وأبو يعلى في ((المسند)) (٣/ ٤٣٥) (١٩٢٥)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (٣/ ٦٩) (٢٥١٠). قال الترمذي: حسن غريب [فيه] ليث بن أبي سليم كان يرفع أشياء لا يرفعها غيره فلذلك ضعفوه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(٥) ((الجامع لأحكام القرآن)) م٧ (١٣/ ٣٣٩).
(٦) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م٤ (٧/ ٣٩٢) باختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>