للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثالث عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين]

كلام الله وكلام رسوله عربي مبين، وظاهره غاية في البيان، وهو مفهوم لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بأصول الدين والإيمان، والتي كثر فيها خوض المتأخرين واختلافهم .... ،

ومن المعلوم أن القرآن عربي، وأنزل على رسول عربي، وخوطبت به - أول الأمر- أمة عربية، وأن القرآن مقصود به الهداية والإرشاد، فلزم أن يكون بينا للأمة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتى تفهمه وتعقله، ولا يتم ذلك حتى يكون جاريا على معهودها في الخطاب، وعادتها في الكلام، وهكذا كان القرآن الكريم.

وقد كانت سنة الله في خلقه أن يرسل كل رسول بلسان قومه حتى يحصل المقصود من الرسالة، فيكون الرسول مبينا في كلامه وبلاغه، ويكون المخاطب قادرا على الفهم، متمكنا من الإدراك، وبهذا تقوم الحجة وتنقطع المعذرة: بالبيان من الرسول والفهم من المرسل إليه، ولهذا قال موسى- في تعليل سؤاله الله أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا -: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [القصص: ٣٤]. فلو أن الله تعالى خاطب أمة بغير لسانها، لما فهمت خطابه لها، ومن ثم لم تقم الحجة عليها بذلك الخطاب، وقد قال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٥] قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى: ( ... كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب المرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأنزل إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة وبعده سواء، إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا) (١).

فمعاني كتاب الله تعالى موافقة لمعاني كلام العرب، كما أن ألفاظه موافقة لألفاظها، ولهذا كان لا يمكن لأحد أن يفهم كلام الله ورسوله إلا من هذه الجهة، جهة كونه عربيا: في ألفاظه وتراكيب تلك الألفاظ، عربيا في أساليبه ومعانيه، قال الشاطبي رحمه الله: (فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها: أصولا وفروعا، أمران: أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة ... ) (٢).

فلابد في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة من مراعاة معهود العرب في خطابها، فلا يصح العدول عن عرفها في كلامها، كما لا يصح أن يفهم كلام الله ورسوله على نحو لا تعرفه العرب من لغتها وأسلوبها (٣).

وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (٤) بعض معهود العرب في خطابها، وأنها تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات: ١٣] فهذا يعم جميع الناس (٥).


(١) ((تفسير الطبري)) (١/ ٧) (المقدمة).
(٢) ((الاعتصام)) (٢/ ٢٩٧).
(٣) ((الموافقات)) (٢/ ٨٢).
(٤) ((الرسالة)) (٥١) و ((تفسير الطبري)) (١/ ٧) (المقدمة).
(٥) ((الرسالة)) (٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>