للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: حقيقة مذهب أصحاب التفويض]

هم طائفة من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، تعارض عندهم المعقول والمنقول فأعرضوا عنهما جميعاً، بقلوبهم وعقولهم، بعد أن هالهم ما عليه أصحاب التأويل من تحريف للنصوص، وجناية على الدين، فقالوا في أسماء الله وصفاته، وما جاء في ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، إنها نصوص متشابهة، لا يعلم معناها إلا الله تعالى وجعلوا الوقف في آية آل عمران عند لفظ الجلالة (١).

وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها (٢):

الأولى: تقول: المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من الأنبياء, ولا الملائكة, ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.

الثانية: تقول: بل تجرى على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا: حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا -مع هذا-: إنها تحمل على ظاهرها.

وهم –أيضاً- طائفتان من حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني النصوص وعدمه: (٣)

الأولى: تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني هذه النصوص المتشابهة، لكنه لم يبين للناس المراد منها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع النزاع، وهذا هو المشهور بينهم.

الثانية: تقول: -وهم الأكابر منهم-: إن معاني هذه النصوص المتشابهة لا يعلمه إلا الله، لا الرسول, ولا جبريل, ولا أحد من الصحابة, والتابعين, وعلماء الأمة.

وعند الطائفتين، أن هذه النصوص إنما أنزلت للابتلاء، والمقصود منها تحصيل الثواب بتلاوتها وقراءتها من غير فقه ولا فهم (٤).

فأصحاب التفويض بنوا مذهبهم على أصلين:

الأول: أن هذه النصوص – نصوص الصفات, والقدر, والوعد, والوعيد, والمعاد – من المتشابه، و ... دحض هذه الدعوى، ... أنه لا يعلم أحد من السلف جعل شيئاً من هذه النصوص من المتشابه الذي لا يعلم معناه أحد من الناس.

الثاني: أن المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى, واستدلوا على ذلك بالوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران، والوقف صحيح، وهو قول جمهور العلماء، لكن لم يقل واحد منهم إن معاني هذه النصوص وغيرها لا يعلمه إلا الله: لا الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من الأمة. فهم لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره, والذي يعلمه الرسول والراسخون في العلم، وبين التأويل الذي اختص الله بعلمه، من العلم بوقت الساعة, وحقائق الأسماء والصفات، ومسائل اليوم الآخر ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن نفهم ما خوطبنا به من هذه المسائل من جهة المعنى، وإن كنا نجهلها: كيفية وقدراً ...

الفرق بين التفويض والإثبات:

تباين السلف وأصحاب التفويض في مسائل أهمها:

الأولى: أن السلف أثبتوا اللفظ وما دل عليه من المعاني، مع فهمهم المعنى المراد من حيث الوضع اللغوي، ومن حيث معرفة مراد المتكلم، فيعلمون معنى السمع والبصر، والوجه واليدين، والصراط والميزان، ونحو ذلك.

أما أصحاب التفويض فهم وإن كانوا قد أثبتوا اللفظ، وفهموه من حيث وضع اللغة؛ لكنهم توقفوا في تعيين المراد به في حق الله تعالى, بل يمنعون أن يكون ظاهره مراداً.

الثانية: السلف فوضوا العلم بالكيفية دون العلم بالمعنى؛ فيعلمون معنى السمع والبصر, والوجه, واليدين، ويعلمون معاني ما أخبر الله به من مسائل اليوم الآخر من أنواع النعيم, وصنوف العذاب، ولكنهم يجهلون كيفية ذلك وحقيقته التي هو عليها.

أما أصحاب التفويض فقد فوضوا العلم بالكيفية والمعنى جميعاً، فلا يعلمون معاني نصوص الصفات، ولا معاني نصوص المعاد، بل يقولون: لا ندري ما أراد الله بها.

الثالثة: أصحاب التفويض وافقوا السلف – أو كثيراً منهم – في الوقف على لفظ الجلالة، لكنهم خالفوهم في جعلهم التأويل المنفي في الآية هو تفسير اللفظ ومعرفة معناه، أو هو التأويل بالاصطلاح الحادث عند المتأخرين (٥). والسلف يقولون: التأويل المنفي هو الحقيقة التي يؤول إليها الأمر, وهو غالب استعمال القرآن، كما مر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– ٢/ ٥٨١


(١) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ١٥)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٣/ ٦٦، ٦٧، ٥/ ٣٤ - ٣٥، ٤/ ٦٧ - ٦٨)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: ٥٣١)، وانظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: ٢٢٢) وما بعدها.
(٢) انظر: ((درء تعارض العقل)) (١/ ١٦)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: ٥٣١).
(٣) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ٢٠٤).
(٤) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١٦/ ٤٤٢)، و ((أساس التقديس)) للرازي (ص: ٢١٦).
(٥) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١٧/ ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>