للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: الركن الثاني كمال المحبة]

فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أن أصل التأله: التعبد وهو كما يقول ابن القيم: (التعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه، وذلك لمحبوبه) (١) اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل، فالعابد محب خاضع، بخلاف من يحب من لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم، فإن كلا من هذين ليس عبادة محضة) (٢) اهـ.

ومما يدل على أن هذا الحب ركن لابد منه قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: ١٦٥].

قال ابن القيم: (فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة) (٣) اهـ. فإذا تبين هذا علم أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة، وهذا يستلزم أن يكون الحب كله لله ولأجله وفيه (٤).

ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة حب الله وما يحب لله فيقول: (وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فإنما محبته وتعظيمه لله، فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم، والمقصود المستقر الذي إليه المنتهى، وأما ما سوى ذلك فيحب لأجل الله، أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله، فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه، ويشهد لهذا الحديث: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (٥).) (٦) اهـ.

وشرط صحة المحبة: المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص. ومما يدل على أن أتباع أمر المحبوب واجتناب نهيه لازم للمحبة قول الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: ٣١] فجعل الله تعالى أتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة على صدق محبتهم لله، وجعل حبه لهم مشروطاً بأتباعهم له، فعلم بهذا استحالة ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المحبة مستلزمة للمتابعة (٧).

فإن لم تتحقق المتابعة والطاعة يكون مدعي المحبة كاذباً في دعواه محبة الله ويكون من الكافرين، وهذا المعنى هو ما قررته الآية التي تلي الآية التي تقدم ذكرها، وهي قول الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: ٣٢].

ومن العرض السابق يعلم أن للعبادة بمعنى التعبد شرطين هما: معرفة المعبود، ومعرفة دينه.


(١) ((مدارج السالكين)) (٣/ ٢٨).
(٢) ((قاعدة في المحبة ضمن جامع الرسائل)) (٢/ ٢٨٤).
(٣) ((مدارج السالكين)) (٣/ ٢١).
(٤) انظر: ((مدارج السالكين)) (١/ ١١٩).
(٥) رواه الطبراني (١١/ ٢١٥) (١١٥٣٧)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٧/ ٧٠) (٩٥١٣) بلفظ: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٤/ ٤٤٠) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(٦) ((قاعدة في المحبة ضمن جامع الرسائل)) (٢/ ٢٨٧ - ٢٨٨).
(٧) انظر: ((تفسير الطبري)) (٦/ ٣٢٢)، و ((مدارج السالكين)) (١/ ١١٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>