للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما الشرط الأول وهو: معرفة المعبود سبحانه وتعالى فهو واضح جداً، فإنه حتى يتحقق الذل والخضوع للمعبود فإنه يشترط أن تتحقق معرفته، والسبيل إلى ذلك هو العلم بما للمعبود سبحانه من الأسماء والصفات ومعاني الربوبية فإنه (لا تكون العبادة إلا مع المعرفة للمعبود) (١).

وأما الشرط الثاني: وهو معرفة دينه – فإنه واضح في البيان المتقدم في شرط المحبة – فإن شرطها هو متابعة أوامر المعبود واجتناب نواهيه، وأوامره ونواهيه هي دينه الذي أنزله، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لدينه إلا بعد معرفته، ولذلك كانت معرفة دين الله شرطاً في التعبد. وقد بين ابن القيم مراتب العلم بالله وبدينه بقوله: (فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به. والعلم بدينه مرتبتان: إحداهما: دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، والثانية: دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله) (٢) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– ١/ ٦٥

العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له فإن آخر مراتب الحب هو التتيم وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب ثم العشق وآخرها التتيم يقال تيم الله أي عبد الله فالمتيم المعبد لمحبوبه ومن خضع لإنسان مع بعضه له لا يكون عابدا له ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما قد يحب ولده وصديقه ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا قال الله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [التوبة:٢٤] فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله والإرضاء لله ورسوله والله ورسوله أحق أن يرضوه والإيتاء لله ورسوله وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [التوبة: ٥٩] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ١٠/ ١٥٣

والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام ومنشأ هذين الأصلين .... هما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - ص١١

ولابد في عبادته من أصلين أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً وقال الفضيل بن عياض: في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [هود:٧] قال: أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ١/ ٣٣٣

ومن لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا للشرع: وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ [آل عمران:١٨٨] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - ١/ ٨٤


(١) ((الفروق في اللغة)) لأبي هلال العسكري (ص: ٢١٥).
(٢) ((مدارج السالكين)) (١/ ١٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>