للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: القرآن الكريم كلام الله تعالى]

القرآن الكريم كلام الله تعالى ... وأن إضافته إليه، إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله، فالله تعالى تكلم به، وهو الذي أنزله على رسوله، ليكون للعالمين نذيرا وهذه الحقيقة قد صرح بها القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: ٦]، وقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [يوسف: ٢] وصرح بها صاحب الرسالة، ومبلغ القرآن الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((ما من الأنبياء نبي، إلا أعطي من الآيات، ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا، أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) (١). وهذا القدر من الأدلة الشرعية كاف في حق من آمن بالله تعالى ربا، وبمحمد بن عبد الله رسولا، وبالإسلام دينا، أن يعرف مصدر القرآن الكريم، وأنه من الله تعالى، إذ الإيمان الصحيح يقتضي أن يصدق المؤمن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به، وقد أخبر أن هذا الكتاب من عند الله تعالى.

أما غير المؤمن من الناس، ممن يشك في نسبة هذا القرآن إلى الله تعالى، وكونه من كلامه، فمثله: إما أن يضيف القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى بشر يعلمه القرآن، أو إلى جن يدرسه إياه.

أما الأول: وهو كون القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لفرط ذكائه، ونفاذ بصيرته، وشفافية روحه، مما يجعله ينشئ بزعمهم مثل هذا الكلام البديع الرصين، فترده أدلة كثيرة، هذا طرف منها:

١ - أن هذا القرآن الذي أعجز البلغاء والفصحاء، قد قال صاحبه: إنه ليس من عندي، وإنما هو من عند غيري، فكيف ينسب له بعد ذلك؟ إذ أي مصلحة تكون لعاقل يرجو لنفسه الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات، لتأييد دعواه؛ ثم تجده بعد ذلك ينسب بضاعته إلى غيره، وينسلخ عنها انسلاخا، على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها، فيزداد بها رفعة، وعظمة شأن (٢).

٢ - أن الرجل مهما بلغ ذكاؤه، وصفت سريرته، أنى له أن يأتي بذكر لأحوال الأمم الغابرة، ومسائل العقائد والشرائع، وما في الجنة والنار من النعيم والعذاب، ثم يذكر لنا بعض ما سيقع في قابل الأيام والدهور، كل ذلك على نحو من التفصيل والتدقيق، مع تمام السبك، وقوة الأسلوب، ومن غير تضاد ولا اختلاف. يقول الباقلاني (رحمه الله): (ما تضمنه القرآن من قصص الأولين، وأخبار الماضين التي لا يعرفها إلا من أكثر ملاقاة الأمم، ودراسة الكتب، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلو كتابا، ولا يخالط أهل السير) (٣).

٣ - قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: ٢٣ - ٢٤] فكيف يجرؤ بشر على هذا التحدي العظيم؛ وقد علم ما عليه قومه من البيان والفصاحة؛ بل تحداهم: حاضرا ومستقبلا! لعمر الله، إنها لمخاطرة لا يقدم عليها عاقل يتصور ما يقول، فضلا عن نبي كريم يرجو لرسالته أن تنتصر، ولدعوته أن تنتشر (٤).


(١) رواه البخاري (٧٢٧٤)، ومسلم (١٥٢).
(٢) انظر: ((النبأ العظيم)) د/ محمد عبد الله دراز (ص: ١٤، ١٥) – مطبعة السعادة ١٣٨٩هـ - ١٩٦٩م – مصر (بدون رقم الطبعة).
(٣) ((الانتصار لنقل القرآن)) (ص: ٥٩).
(٤) انظر: ((النبأ العظيم)) دراز (ص: ٣٦، ٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>