[المبحث الرابع: معنى قول السلف الإيمان قول وعمل]
من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل هو: أنه التزام وتنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة -بالقلب واللسان والجوارح- ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء- فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف -من هذا الوجه- بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير.
وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله- فقد عمل أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط.
ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:
إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة الدين، حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: الدين قول وعمل، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرءون حقائقه كل حين.
فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان قول فقط -متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة- أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك -أول مرة- أرادوا ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضاً.
ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ، ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.
والحاصل: أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا، وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر, ......
وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين الحنفية، فحينئذٍ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، .....
وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: (أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم الناس في هذا على أقسام:
أ- منهم من صدق به جملةً ولم يعرف التفصيل.
ب- ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.
ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق -مجملاً أو مفصلاً- ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة, أو تقليد جازم.