للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثامن عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الظاهر والباطن]

أن المؤمن إذا تحقق علوه تعالى المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه، فقد جمع قلبه على المعبود، وجعله له رباً يقصده وصمداً يصمد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسم (الظاهر) استقامت له عبوديته وصار معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه.

كما أن الله عز وجل هو الباطن المحيط بكل شيء الذي أحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، دنا من كل شيء ببطونه فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب والسر عنده علانية، فهو العليم ببواطن الأمور وظواهرها يستوي عنده هذا وهذا. قال تعالى سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: ١٠] فيستوي عند الله تعالى من هو متخف في قعر بيته في ظلام الليل ومن هو سائر في سربه (طريقه) في بياض النهار وضيائه (١).

وعن عبوديته تعالى بهذين الاسمين قال الإمام ابن القيم: وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (٢)، فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠] صار لقلبه قبلة توجه نحوها ومعبود يتوجه إليه قصده، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه ويتوجه إليه.

وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته ويكل اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول أهل الانحراف، فمن رزق هذا فهم معنى اسمه (الباطن) ووضح له التعبد به.

وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] وقال: وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [البروج: ٢٠] ولهذا يفرق سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه (الظاهر) وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: ٤] وقال تعالى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣] وقال: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: ١١٥]، وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء فهو (الباطن) بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه فهذا أقرب لإحاطة العامة (٣). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: ٤١٦


(١) ((طريق الهجرتين)) (ص: ٢٤).
(٢) رواه مسلم (٢٧١٣). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) ((طريق الهجرتين)) (ص: ٢١ - ٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>