للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: العذر بالتأويل]

والمقصود بالتأول ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق (١).

يقول ابن حجر في تعريف للتأويل السائغ: (قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم) (٢).

والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: (إن الأحاديث المتضمنه للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع.

وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) (٣). وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يداً بيد: ((أوه عين الربا)) (٤) كما قال: ((البر بالبر ربا، إلا هاء وهاء.)) (٥) الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة في الحديث.

ثم إن الذين بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة)) (٦). فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه ... الذين هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة) (٧).

ويقول أيضاً: (وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرما) (٨).

ويقول ابن تيمية - في موضع ثالث -:

(والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً) (٩).

ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً: -

(ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة). (١٠).

كما يقرر ذلك ابن الوزير حيث يقول: (قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: ١٠٦]، ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً، أو ظناً، أو تجويزاً، أو احتمالاً) (١١).


(١) انظر: رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: ٣٢٨، ٣٤٦).
(٢) ((فتح البارى)) (١٢/ ٣،٤).
(٣) رواه مسلم (١٩٥٨) بلفظ: (لعن رسول الله.). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(٤) رواه البخاري (٢٣١٢)، ومسلم (١٥٩٤).
(٥) رواه البخاري (٢٣١٢)، ومسلم (١٥٩٤). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٦) رواه مسلم (١٥٩٦) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(٧) ((مجموع الفتاوى)) (٢٠/ ٢٦٣) باختصار يسير، وقد أطنب ابن تيمية في ذكر أمثلة عديدة. انظر ((مجموع الفتاوى)) (٢٠/ ٢٦٤ - ٢٦٨)، و ((الاستقامة)) (٢/ ١٨٩).
(٨) ((مجموع الفتاوى)) (٢٠/ ٢٥٤).
(٩) ((مجموع الفتاوى)) (٣/ ٢٣١) وانظر (٣/ ٢٨٣، ١٢/ ٥٢٣).
(١٠) ((الدرة)) (ص: ٤١٤)، وانظر ((الفصل)) (٣/ ٢٩٦، ٢٩٧)
(١١) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: ٤٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>