للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولاً: إنجيل متى

يصدر النصارى كتابهم المقدس بهذا الإنجيل، فهو أول كتبهم في الترتيب، وهو أطولها؛ إذ يحوي ثمانية وعشرين إصحاحاً.

ويزعم النصارى أن (متى) الذي ينسب الكتاب إليه هو أحد الحواريين، وكان قبل اتباعه للمسيح عشاراً (جابي ضرائب).

إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يبرزوا لنا دليلاً يُعتمد عليه في صحة نسبة هذا الكتاب إلى (متى)، وأقدم من يعتمدون على قوله في نسبة الكتاب إلى (متى) أحد كتابهم، ويسمى (يوسابيوس القيصري) في كتابه (تاريخ الكنيسة) حيث نقل عن أسقف كان لهيرا بوليس سنة (١٣٠) م, يدعى (بابياس)، أنه قال: (إن متى كتب الأقوال باللغة العبرانية).

وهذا القول ولدى جميع العقلاء لا يمكن أن يعتمد عليه في إثبات صحة نسبة الكتاب إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري.

وذلك لأن "بابياس" المذكور هنا لم يكن سمع تلك التعاليم وتلك الكتب من أصحابها، بل كان يسمعها بواسطة، حيث يقول عن نفسه فيما ذكر عنه (يوسابيوس): (وكلما أتى واحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم؛ لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيد بقدر ما يصل من الصوت الحي).

فهو هنا لا يتحرى في النقل، ومما لاشك فيه أن أولئك الوسائط لابد أن تثبت عدالتهم، وإلا فلا يعتد بما يروونه ويقولونه.

كما أن (يوسابيوس القيصري) قد طعن في بابياس نفسه حيث قال عن رواياته: (ويُدوِّنُ نفس الكاتب روايات أخرى يقول: إنها وصلته من التقليد غير المكتوب. وأمثالاً وتعاليم غريبة للمخلص وأموراً خرافية ... ).

ثم قال عنه وعن آرائه: (وأظن أنه وصل إلى هذه الآراء بسبب إساءة فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرك أن أقوالهم كانت مجازية؛ إذ يبدو أنه كان محدود الإدراك جدًّا كما يتبين من أبحاثه، وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من آباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين في ذلك على أقدمية الزمن الذي عاش فيه).

فهذه طريقة (بابياس) في النقل حيث ينقل عن كل من اتبع المشايخ بدون تحر لمقدرة التلميذ على الحفظ والضبط للروايات والعدالة وما إلى ذلك من شروط صحة الخبر، كما أن (بابياس) نفسه ضعيف التمييز بين الأقوال محدود الإدراك جدًّا. فكيف تعتبر أقوال من هذه حاله في أخطر قضية، وهي الشهادة لكتاب بأنه كلام رب العالمين؟ كما أن في المقابل هناك عدة أدلة تدل على عدم صحة نسبة الإنجيل إلى (متى) الذي يزعمون أنه حواري وهي:

١ - أن النصارى لم ينقلوا الإنجيل بالسند، وقول (بابياس) السابق لم يعين فيه من هو (متى)، هل هو الحواري أم رجل آخر؟ كما أنه لم يعين الكتاب بل قال: (الأقوال).

وأيضاً فقد ذكر أمراً آخر يختلف تماماً عما عليه إنجيل متى الموجود، وهو أنه قال: إنه كتبه باللغة العبرانية، مع أن النصارى يجمعون على أن: الكتاب لم يعرفوه إلا باللغة اليونانية، ولا يعرفون للكتاب نسخة عبرانية، بل الكثير منهم يرى أن: الكتاب يظهر من لغته أنه أول ما كتب إنما كتب باللغة اليونانية، وليس العبرانية، فهذا يدل على أن قول (بابياس) لا ينطبق على إنجيل متى الموجود بين يدي النصارى.

كما أن هناك استفساراً آخر في حالة أن يكون الإنجيل مترجماً من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية، وهو: من هو مترجمه؟ وهذا أمر مهم؛ لأنه ما لم يعلم دين المترجم، وصدقه، وضبطه، وقوة معرفته باللغتين لا يمكن أن يعتمد على ترجمته.

٢ - إن الدارسين لهذا الكتاب والباحثين من النصارى وغيرهم يرون أن كاتب هذا الإنجيل اعتمد كثيراً على إنجيل مرقص، ومرقص في كلام النصارى تلميذ بطرس، فهل من المعقول أن يعتمد أحد كبار الحواريين في زعمهم على تلميذ من تلاميذهم في الأمور التي هم شاهدوها وعاينوها وعايشوا أحداثها؟

هذا يدل على أن كاتبه غير (متى) الذي يزعمون أنه حواري، وأن دعوى النصارى أن كاتب الإنجيل هو متى الحواري دعوى عارية عن الدليل، وهي من باب الظن والتخمين الذي لا يغني من الحق شيئاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>