للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد؟]

إن لفظ (المعصية) من الألفاظ التي ورد بها الشرع الحنيف، فلابد إذاً من الرجوع إلى الشرع في تحديد حقيقتها ومدلولها، سواء أطلق أم قيد بمعنى معين. أما الإعراض عن هذا الأصل، والانكباب على أقوال أهل اللغة وأهل الكلام وتعريفاتهم، فإنه مطية إلى الزيغ والضلال؛ ولأن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.

ومن أحسن من ... اعتنى بالألفاظ الشرعية، واستقرأ معانيها في الكتاب والسنة، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - (١). فقد بيّن – رحمه الله – معاني تلك الألفاظ عند الإطلاق وعند التقييد وفق منهج علمي ثابت، ينم على غزارة علمه بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح. ولهذا عند حديثه عند لفظ (المعصية)، قال: (إذا أطلقت المعصية لله ورسوله، دخل فيهما الكفر والفسوق، كقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: ٢٣] (٢).

ونقل عند قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: ٧] كلاما لمحمد بن نصر المروزي هذا نصه: (لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر، فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق ... ويكرهون – أي أهل السنة – جميع المعاصي، الكفر منها والفسوق، وسائر المعاصي كراهية تدين) (٣).

ومن أبرز المعاصي التي هي كفر مخرج عن الملة: الشرك بالله تعالى. فقد أخبر سبحانه في كتابه العزيز أنه لا يغفر الشرك إلا بالتوبة النصوح وتجديد الإيمان. أما من لقي الله مشركا، فإنه من أهل النار المخلدين فيها، لا ينفعه أي عمل قدمه، بل إن أعماله جميعا تحبط عند مواقعته الشرك. قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥]. ثم إذا صاحب المعصية استحلال لها، فإنها تكون كفرا كذلك ... ويدخل تحت هذين النوعين من المعاصي صور كثيرة يصعب حصرها.

وعلى هذا نقول إن القول بعدم تكفير عصاة الموحدين مقيد بعدم الإشراك بالله تعالى ولقائه، وكذلك بعدم استحلال المعصية. ولهذا قال الإمام الطحاوي في عقيدته: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) (٤)، وإن كانت العبارة الأدق في ما أورده الشارح لعقيدته، إذ قال: (بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب) (٥)؛ لأن من الذنوب ما يكون كفرا في ذاته. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد -بتصرف– ص: ٩٣

ومن أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون الإنسان بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل يكلون أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له (٦).

ولهذا اشتهر قولهم: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله (٧).

ومرادهم بالذنب هنا: المعاصي التي ليست كفرا مخرجا عن الملة، ولا هي من المباني الأربعة التي بني عليها الإسلام.


(١) انظر: ((الإيمان)) (١ - ١١٤)، ((الرد على المنطقيين)) (ص: ٥٢ - ٦٠).
(٢) ((الإيمان)) (ص: ٥٥).
(٣) ((الإيمان)) (ص: ٣٩).
(٤) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٢/ ٤٣٢).
(٥) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٢/ ٤٣٢).
(٦) انظر: ((الواسطية وشرحها)) لابن عثيمين (٢/ ٦٤٤)، و ((شرح الطحاوية)) (ص٣٢١، ٣٦٩).
(٧) ((الطحاوية)) مع شرحها لابن أبي العز الحنفي (ص٣١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>