للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: موقف أهل السنة والجماعة من التمثيل]

التمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلاً لشيء, وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة.

وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا ... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:

أ- الأدلة السمعية: تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.

- فمن الخبر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: ٦٥]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: ٤]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.

- وأما الطلب، فقال الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: ٢٢] أي: نظراء مماثلين. وقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ [النحل: ٧٤].

فمن مثَّل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثَّل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه، فقد كفر (١)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.

وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:

أولاً: أن نقول لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.

ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.

وأنزل الله قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: ١]، تقول عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات (٢) ... والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.

ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: ٢٥٥]، وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر: ٦٧]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق.


(١) رواه الذهبي في ((العلو)) (٤٦٤)، وصححه الألباني في ((مختصر العلو)) (ص٧٥).
(٢) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم عن عائشة رضي الله عنها، بعد حديث (٧٣٨٥)، ورواه النسائي (٦/ ١٨٦) وابن ماجه (١٨٨) وأحمد (٦/ ٤٦) (٢٤٢١)، قال ابن عساكر في معجم الشيوخ (١/ ١٦٣) وابن حجر في التغليق (٥/ ٣٣٩) والألباني في صحيح ابن ماجه: صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>