للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الرابع: إبطال الأقيسة العقلية الخاطئة]

العقل الصريح المستضيء بنور الشرع الصحيح ميزان توزن به الدعاوى والمقدمات. وكما أن العقل يقعد القواعد السليمة والمقدمات الصحيحة فإنه يمارس وظيفة أخرى، وهي فحص المقدمات المزعومة وبيان زيفها، وبالتالي بطلان ما بني عليها من نتائج وعقائد.

وتظهر أهمية هذه الوظيفة العقلية الهامة إذا تبينا حجم الأقيسة العقلية الباطلة التي توارثتها أجيال الفلاسفة والمتكلمين مسلِّمين بها، مذعنين لما أدت إليه من نتائج حتى ولو خالفت الشرع مخالفة صريحة.

فالفرق بين الأقيسة العقلية الصحيحة والأقيسة العقلية الخاطئة، أن الأولى منضبطة بضوابط الشرع المعصوم موافقة للفطر السليمة، والأخرى اجتهادات بشرية منحرفة لا ضابط لها تتأثر بمؤثرات شتى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها، تقول الأخرى هي باطلة، وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء سليمي الفطرة، التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليماً من غيره، لا من موجب فطرته، فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية، لا ترجع إلى العقل الصريح، وهو يدعي أنها عقلية فطرية.

ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب، تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى الفطرة) (١).

ولم يزل السلف الصالح رحمهم الله يرفضون نتاج الفلسفة اليونانية الفاسد، ويحذرون منه ويكشفون عواره، مع التزامهم بالمنهج الإيماني في عرض العقيدة. ومن أمثلة تفطن السلف لمسالكهم الباطلة قول الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية نفاة الصفات: ( .. وقلنا هو شيء فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً بشيء، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية) (٢)

لكن السلف الأولون لم يطيلوا النفس في نقض شبهاتهم, وتفنيد حججهم لما في ذلك من نشرها وإذاعتها في حال كان الغالب على الناس السنة والاتباع, والسلامة من هذه اللوثات. ولما عمت البلوى بكتب أهل الكلام، وصاروا هم المتنفذين، وأصحاب الرياسات، ونشروا مذاهبهم، قيض الله في العصور المتأخرة – القرنين السابع والثامن الهجريين – شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فانتدب لهتك أستارهم, وبيان عوارهم للأمة بعلم نقي، ومعتقد سلفي، وذهن ثاقب، وعقل راجح، فحمل عليهم سلاحهم الذي كانوا يستطيلون به على أهل السنة والاتباع، وهو (العقل)، وبين أن أهل السنة أسعد بهذا الدليل من غيرهم, وأولى الناس به. وسنضرب بعض الأمثلة لإبطال العقل الصريح لبعض المقاييس العقلية الخاطئة في باب الصفات.

١ - إثبات الصفات إثبات لتعدد الآلهة:


(١) ((درء تعارض العقل والنقل)) (٤/ ٢٧٨ - ٢٧٩).
(٢) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) ص (٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>