للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأصل الثاني: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بالإيمان]

وهذا قول أئمة الإسلام: الأوزاعي ومالك وسعيد بن عبدالعزيز التنوخي، كانوا (ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بالإيمان) (١).

وقال عطاء: (فألزم الاسم العمل، وألزم العمل الاسم).

ويزيد في إيضاح ما تقدم – مع وضوحه – قول عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي: (الإيمان بالله مع العمل، والعمل مع الإيمان، ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله) (٢).

وأما أهل البدع فقد فرقوا بين الإيمان والعمل، قال الإمام القدوة الثبت أبو علي الفضيل بن عياض التميمي: (فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليس من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله عز وجل أمره.

ويقول أهل السنة: إن الله – عز وجل – قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله - عز وجل - من الإيمان، قالوا: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: ٨٢] فهذا موصول العمل بالإيمان.

ويقول أهل الإرجاء: إنه مقطوع غير موصول.

وقال أهل السنة: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء: ١٢٤] فهذا موصول.

وأهل الإرجاء، يقولون: بل هو مقطوع.

وقال أهل السنة: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن [الإسراء: ١٩] فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه ذلك، فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع.

وأهل الإرجاء يقولون: هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، وكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (٣).

فانظر إلى هذا الإلزام الذي ألزمته أهل السنة المرجئة، وهو يدل على أن المرجئة الذين أنكر السلف قولهم لا ينكرون الوعيد في حق العصاة، ولا ينكرون بأن من لم يأت بالعمل أنه تارك للفرائض، وأنه معرض للوعيد، لكنهم يرفضون دخول العمل في الإيمان، وأن من لم يأت به ليس مؤمناً، وهذا هو مرادهم من فصل العمل عن الإيمان.

(وقد جاء عن الإمام الشافعي في مناظرته أحد المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان قول.

قال الإمام الشافعي: ومن أين قلت؟

قال: من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: ٢٧٧]. فصار الواو فصلاً بين الإيمان والعمل؛ فالإيمان قول، والأعمال شرائع.

فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟ قال: نعم.

قال: فإذا كنت تعبد إلهين: إلهاً في المشرق، وإلهاً في المغرب؛ لأن الله تعالى يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: ١٧] فغضب الرجل، وقال: سبحان الله! أجعلتني وثنياً.

فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك.

قال: كيف؟

قال: بزعمك أن الواو فصل.

فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت، بل لا أعبد إلا رباً واحداً، ولا أقول بعد اليوم: إن الواو فصل، بل أقول: إن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص) (٤).

فقول المرجئ (والأعمال شرائع) يدل على أن الأعمال عندهم مطلوبة، وهذا محل اتفاق عندهم، قال عبدالقاهر البغدادي – عند كلامه على الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة يعني الأشاعرة -: (قالوا في الركن الثالث عشر: المضاف إلى الإيمان والإسلام: إن أصل الإيمان المعرفة والتصدق بالقلب، وإنما اختلفوا في تسمية الإقرار وطاعات الأعضاء إيماناً مع اتفاقهم على وجوب الطاعات المفروضة، وعلى استحباب النوافل المشروعة ... ).

وجمهورهم على أن تارك الطاعات المفروضة معرض للوعيد، لكنهم يختلفون مع السلف في إدخالها في الإيمان، أي في ترتيب الإيمان على وجودها، والكفر على انتفائها، وهذا ما تدل عليه مقولة السلف: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: ٩٤


(١) ((صريح السنة)) (ص: ٢٥)، و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (٤/ ٩٣٠).
(٢) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (٤/ ٩٣٠).
(٣) ((السنة)) عبدالله بن أحمد بن حنبل الشيباني (١/ ٣٧٦).
(٤) أخرج هذه المناظرة أبو نعيم في ((الحلية)) (٩/ ١١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>