للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: كيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة]

إذا كان يوم القيامة كانت ثروة الإنسان ورأس ماله حسناته، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، فإنه يؤخذ من سيئاتهم فيطرح فوق ظهره. ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) (١). وهذا الذي يأخذ الناس حسناته، ثم يقذفون فوق ظهره بسيئاتهم هو المفلس، كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (٢). والمدين الذي مات، وللناس في ذمته أموال يأخذ أصحاب الأموال من حسناته بمقدار ما لهم عنده، ففي (سنن ابن ماجه) بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه دينار أو درهم، قضى من حسناته، ليس ثم دينار ولا درهم)) (٣). وإذا كانت بين العباد مظالم متبادلة اقتص لبعضهم من بعض، فإن تساوى ظلم كل واحد منهما للآخر كان كفافاً لا له ولا عليه، وإن بقي لبعضهم حقوق عند الآخرين أخذها. ففي (سنن الترمذي) عن عائشة، قالت: ((جاء رجل فقعد بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك، ولا عليك. وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:٤٧])) (٤). ولما كان هذا شأن الظلم فحريٌّ بالعباد الذين يخافون ذلك اليوم أن يتركوه ويجتنبوه وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الظلم يكون ظلمات في يوم القيامة، ففي (صحيح البخاري) و (مسلم) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) (٥). وفي (صحيح مسلم) عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) (٦). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٢٣٨


(١) رواه البخاري (٦٥٣٤) بلفظ: (طرحت) بدلاً من (حمل).
(٢) رواه مسلم (٢٥٨١).
(٣) رواه ابن ماجه (٢٤١٤). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٣/ ٤٦): إسناده حسن. قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (٣/ ٦٥): هذا إسناد فيه مقال مطر الوراق مختلف فيه، ومحمد بن ثعلبة بن سوَّاء قال فيه ابن أبي حاتم: أدركته ولم أكتب عنه. اهـ. ولم أر لغيره من الأئمة فيه كلاماً. وباقي رجال الإسناد ثقات على شرط مسلم. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(٤) رواه الترمذي (٣١٦٥). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن غزوان. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٣/ ٢٢٣): عبدالرحمن بن غزوان ثقة احتج به البخاري بقية رجال أحمد احتج بهم البخاري ومسلم. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح الإسناد.
(٥) رواه البخاري (٢٤٤٧)، ومسلم (٢٥٧٩).
(٦) رواه مسلم (٢٥٧٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>