للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: حكم الجهل ببعض أسماء الله وصفاته وأدلته]

قضية الجهل ببعض أسماء الله وصفاته من القضايا التي يمثل بها أهل العلم على العذر بالجهل فيما يتعلق بقضايا التوحيد، وأن المخطئ فيها بجحد أو نكران لا يكفر، حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ لأن الأسماء والصفات من المسائل العقدية التي لابد من ورود النص الشرعي بها، ولا تثبت بالعقل أو الرؤيا أو الذوق ونحو ذلك. صحيح أن العقل يدركها بالفطرة، ولكن العقل .... تابع للنقل الصحيح.

قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: (لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه، فقط كفر. وأما قبل قيام الحجة، فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية ولا الفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]) (١).

وقال الإمام النووي – رحمه الله -: (قال القاضي: وممن كفره بذلك - أي بجهل الصفة - ابن جرير الطبري، وقاله أبو الحسن الأشعري أولاً. وقال الآخرون: لا يكفر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري، وعليه استقر قوله؛ لأنه لم يعتقد بذلك اعتقاداً يقطع بصوابه، ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من يعتقد أن مقالته حق. قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات، لوجد العالم بها قليلاً) (٢).

وقال ابن قتيبة – رحمه الله -: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين، فلا يكفرون بذلك) (٣).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وقول طائفة من أهل الكلام: إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها ويكفر تاركها، بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه، وتارة يتأولونه أو يفوضون معناه وتارة يثبتونه، لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقا بالصفات العقلية. فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها؛ إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الدلالة العقلية) (٤).

وقال الشيخ عبد الله البابطين: (من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها، كفر، وإن كان يجهلها، لم يكفر) (٥).

والقياس هنا يكون بالنظر إلى بيئة كل واحد منهما من حيث مظنة العلم أو عدمها، وبالنظر إلى قدرات كل واحد منهما الإدراكية والعلمية. قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته، لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مقرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يتقضي كفره إذا لم يعلمه) (٦).

والأدلة على عذر الجاهل ببعض الأسماء والصفات الإلهية، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة الشرعية ثم يعاند. الأدلة على هذا كثيرة، نذكر منها ما يلي:

- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان رجل يُسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: يا رب خشيتك فغفر له)) (٧).


(١) ((فتح الباري)) (١٣/ ٤٠٧).
(٢) ((شرح مسلم)) للنووي (٥/ ٥٩٨ - ٥٩٩).
(٣) ((فتح الباري)) (٦/ ٥٢٣).
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (٣/ ٣٢٨).
(٥) ((عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين)) (ص: ١٨).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٣٨).
(٧) رواه البخاري (٣٤٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>