للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سادسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الشاكر والشكور]

أولاً: إن العبد من حين استقر في الرحم إلى وقته، يتقلب في نعم الله ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً، ويقظة ومناماً، سراً وعلانية (١)، في كل الآنات، وفي جميع اللحظات. وتواتر إحسان الله إليه على مدى الأنفاس.

قال ابن القيم رحمه الله:

يكفيك رب لم تزل في فضله ... متقلباً في السر والإعلان (٢)

جل وعلا لا تنفد عطاياه، ولا تنقطع آلاؤه، ولا تنتهي نعماؤه، قال جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: ٢٠]. والنعم الظاهرة بعضها وقع، وبعضها منتظر وقوعه. والنعم الباطنة بعضها نعلمه، وبعضها نحاول أن نعلمه، وبعضها لا نعلمه أبداً.

فلو اجتهد العبد في إحصاء أنواع النعم لما قدر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: ٣٤] (أي وإن تتعرضوا لتعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم إجمالاً، فضلاً عن التفصيل، لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال.

ومن المعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه, أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلاً، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه؟! فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنويعها واختلاف أجناسها؟! (٣)

وإن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص، لنغص النعم على الإنسان, وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدبر هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه, أو يقدر على إحصائها, أو يتمكن من شكر أدناها؟ وأي شكر يقابل هذا الإنعام؟ فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار؛ كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء: ٤٢]، فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه (٤).

ولو عمل العبد من الصالحات أعمال الثقلين، فإن نعم الله عليه أكثر، وأدنى نعمة من نعم الله تستغرق جميع أعماله.

ما ثم إلا العجز عن شكر ربنا ... كما ينبغي سبحانه متفضلا (٥)

فينبغي على العبد أن يكون عبداً شكوراً, يشكر الله على وافر نعمه، وجميل إحسانه، ويبالغ في الشكر، (على النعم الدنيوية، كصحة الجسم وعافيته، وحصول الرزق وغير ذلك. ويشكره ويثني عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، والتقوى، بل نعم الدين، هي النعم على الحقيقة) (٦). فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور (٧).

فعلى العبد أن يكثر من الشكر، بالقلب واللسان، والعمل بالجوارح. لعله يشكر الله على بعض مننه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وإحسانه التام، وخيره المدرار، وعطائه العظيم، وإكرامه الجليل.


(١) ((الروح)) (ص: ٢٩٨).
(٢) ((الكافية الشافية)) (ص: ٢٨٧).
(٣) ((فتح البيان)) (٧/ ١١٩ - ١٢٠).
(٤) ((طريق الهجرتين)) (ص: ٥٧٠).
(٥) ((مجالس في تفسير قوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين (ص: ٤٦٨).
(٦) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: ١٠٢٣).
(٧) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: ١٣١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>