[المبحث الثاني: إعجازه]
القرآن هو الحجة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتحدى الناس أن يأتوا بمثله، وتحداهم أخرى أن يأتوا بعشر سور مثله، وتحداهم ثالثة أن يأتوا بسورة مثله، وتحداهم رابعة أن يأتوا بحديث مثله، وما استطاعوا ولن يستطيعوا.
ولن نذهب يمنة ويسرة لتأصيل الإعجاز، أو لإطالة الحديث عنه هنا، فليس هذا بمقام ذاك، ولا هو بمستوعب له، فالإعجاز أجلى من أن يطال في بيانه، وأوعب من أن تستقصى أطرافه.
نزل القرآن على أمة أمية في العقيدة، وأمية في الفكر، وأمية في الصناعة، وفي الزراعة، وأمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأمية في كل شؤون الحياة، إلا الكلمة وتذوقها، فهم أربابها وأصحابها, يمتطونها ويحكمون صنعتها, يطربون لجميلها, ويمجون قبيحها, ملكوها بقدر ما ملكتهم, يسيرونها وتسيرهم, ترفع فيهم وتضع.
بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته في شيء لا يتقنونه، أو فن لا يحذقونه، بل تحداهم فيما يدركون, وفيما هم فيه بارزون.
جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه بموازين كلامهم، فإذا به أبلغ من بليغ الكلام، وأفصح من فصيحه، لا يرتقي إليه بيان, ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه، لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصِّلت: ٢٦]، أما من لم يفعل فقد حيل بينه وبين خلافه, فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد في نقضه, ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه, فلا مفر منه إلا إليه, فقد أخذ بمجامع القلوب, واستولى على جهات النفوس, فما أعجب شأنه, وأعظم أمره.
ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها.
جاء بالدين بأصوله, وحججه, وبراهينه, وشريعته, وآدابه, وسائر مقومات الأمة على أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: ٩٥