للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى (١)

إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة .. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: ١٧] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.

فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم.

فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى قوله – وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: ١ - ٧] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.) (٢).

هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) (٣).

فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا .. قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: ١٤٦] وقال أيضاً وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: ٣٤].

وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: ١٢٧]


(١) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: ٢٤٨).
(٢) ما بين الأقواس () من كلام ابن تيمية بتصرف، انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (٢٩ - ٣١).
(٣) رواه الترمذي (٢٣٩٨)، وابن ماجه (٣٢٦٥)، وأحمد (١/ ١٧٣) (١٤٩٤)، والدارمي (٢/ ٤١٢) (٢٧٨٣)، وابن حبان (٧/ ١٦١) (٢٩٠١)، والحاكم (١/ ١٠٠). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (٨٣٢) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (٢٢٦): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٢/ ١٦٧) كما أشار إلى ذلك في مقدمته.

<<  <  ج: ص:  >  >>