للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث السابع: هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي]

يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين، ويحلُّون ويحرمون، ويخططون ويوجهون، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه، وترضى به أو ترفضه، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه (فالبراهمة – وهم طائفة من المجوس – زعموا أن إرسال الرسل عبث، لا يليق بالحكيم، لإغناء العقل عن الرسل، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقاً للعقل حسناً عنده فهو يفعله، وإن لم يأت به، وإن كان مخالفاً قبيحاً – فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه) (١).

ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح، (فإنّ الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه.

والفطرة الأولى: (وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح) هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية (وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار .. ) فمشتركة بين أصناف الحيوان) (٢) والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور:

الأول: أنّ هناك أموراً هي مصلحة للإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها بمجرد عقله، لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته، (فمن أين للعقل معرفة الله – تعالى – بأسمائه وصفاته .. ؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدّ لأوليائه، وما أعدّ لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يُظهِر اللهُ عليه أحداً من خلقه إلاّ من ارتضاه من رسله إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته) (٣).

الثاني: أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع، وإن أدركت التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكاً كلياً شاملاً: (فالعقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلاً أو ظلماً فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كلّ فعل وعقد) (٤).

الثالث: أن العقول قد تحار في الفعل الواحد، فقد يكون الفعل مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أو مصلحته، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك، وتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقّه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة، والمفسدة الراجحة (٥).

وفي هذا يقول ابن تيمية: (الأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول) (٦).

الرابع: ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحاً، فإنه ليس إلا فرضيات، قد تجرفها الآراء المتناقضة، والمذاهب الملحدة.

ولو استطاعت البقاء فإنها – في غيبة الوحي – ستكون تخمينات شتى، يلتبس فيها الحق بالباطل.


(١) ((لوامع الأنوار البهية)) (٢/ ٢٥٦).
(٢) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ١١٦).
(٣) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ١١٧).
(٤) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ١١٧).
(٥) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ١١٧).
(٦) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٢/ ٣١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>