للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما]

وأما الحال التي يكون فيها محرماً (١): فإن ذلك يحصل إذا ترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زوال مصلحة أعظم من المأمور بها .. أو ترتب مفسدة أعظم من المنهي عنها.

وذلك كأن ينهى من يشرب الخمر عن شربها، ويعلم أنه لو أفاق لقتل رجلاً من المسلمين، فهذا يترك في سكره.

وكمن يأمر إنساناً بالطمأنينة في الصلاة .. وهو يعلم أن ذلك يؤدي إلى تركه الصلاة بالكلية.

وكأن يأتي إنسان إلى بعض المنكرات الظاهرة في الأسواق ونحوها مما ليس له عليه ولاية ولا سلطة .. فيفسدها بنفسه .. وليس هو والياً للحسبة، ولا منصوباً لذلك ويكون تغييره هذا جالباً لفتنة تقع بين الناس .. فيغير بالرغم من ذلك كله .. !

وكمن يحدث الناس ويأمرهم ببعض المعروف الذي لم تتهيأ نفوسهم لقبوله .. فيحدث ذلك من الفتن ما الله به عليم.

ولذا فقد ورد في الأثر عن علي رضي الله عنه ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (٢).

قال الحافظ: وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. (٣) ا. هـ.

وأخرج مسلم عن ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (٤) ولذا قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه- لعائشة –رضي الله عنها- ((لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض)) (٥) وفي لفظ: ((مخافة أن تنفر قلوبهم)) (٦).

قال الحافظ: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً) (٧) ا. هـ.

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه كسر شيئاً من الأصنام بمكة قبل الهجرة .. مع أنها أعظم المنكرات، وهو يمر بها وهي معلقة على جدار الكعبة.

فكان يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك قدر طاقته .. هذا هو الأصل ما لم توجد القدرة عند الإنسان على إزالة المنكر بحيث لا يفوت ذلك مصلحة أعظم، أو يوقع بمفسدة أشد وأطم. ولذا نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين فقال: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... [الأنعام: ١٠٨].

ومما يلحق بهذا القسم – أعني المحرم – ما ترتب عليه لحوق الضرر المعتبر بغيره، كتعريض قرابته أو غيرهم للقتل أو الحبس أو مصادرة الممتلكات أو الضرب أو نحو ذلك مما يسقط الوجوب عنه إن لحق به، ويبقى الأمر والنهي مستحباً في حقه .. أما إن لحق بغيره فلا.

فلو كان الإنكار على أحد من الولاة يؤدي إلى منع صلاة الجماعة في المساجد، أو منع التعليم الشرعي، أو قتل المصلين المستقيمين على دينهم .. فإن الإنكار في هذه الحال يكون منكراً وقد يأثم صاحبه.


(١) انظر تفصيلاً في هذا الموضوع في ((الفروق)) للقرافي (٤/ ٢٥٧ - ٢٥٨). ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (٩٩ - ١٠١)، ((أصول الدعوة)) (ص: ١٩١).
(٢) رواه البخاري (١٢٧). عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني عن علي رضي الله عنه.
(٣) ((الفتح)) (١/ ٢٢٥).
(٤) رواه مسلم في مقدمة كتابه ((الصحيح)) (٥).
(٥) رواه البخاري (١٥٨٤).
(٦) رواه مسلم (١٣٣٣).
(٧) ((الفتح)) (١/ ٢٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>