للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: المرجئة وإنكارهم للتلازم]

المرجئة الذين أخرجوا العمل من الإيمان، لا ينازع كثير منهم في أن العمل ثمرة للإيمان الباطن، ولكنهم ينازعون في كونه لازما له، ومن سلّم منهم بالتلازم كان النزاع معه لفظيا، كما سبق.

وفي بيان إنكار المرجئة للتلازم بين الظاهر والباطن، يقول شيخ الإسلام: (فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة، ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة؟ (١).

وقال: وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان:

يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف وأهل السنة.

ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم (٢).

فتأمل هذا الكلام الواضح البين، من هذا الإمام العلَم، لعل الله أن ينير بصيرتك، وتميز بين كلام أهل السنة والمرجئة.

وقال: الثالث (أي من أغلاط المرجئة): ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له. والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة. ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر، ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب، مثل أن يقولوا: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان; يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان. فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار. (٣).

وقال: وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الْإِسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (٤).

ومتى حصل له هذا الإيمان، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.

وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجَبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك (٥).

وقال: والمرجئة المتكلمون منهم والفقهاء منهم يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه، ولأنها دليل عليه. (٦).

فهذا حال المرجئة قديما، ينفون التلازم، ويتصورون وجود إيمان القلب التام، بل الكامل مع انتفاء العمل الظاهر.

وأما من قال بالإرجاء من المعاصرين أو دخلت عليه شبهته، فقد اضطربوا في هذه المسألة، فمنهم من يثبت التلازم بين الظاهر والباطن لفظا، وينفيه حقيقة، فيحكم بإسلام تارك العمل الظاهر كله، ويتصور وجود الإيمان المنجي في القلب مع انتفاء العمل.

ومنهم من يزعم أن التلازم إنما يقع مع الإيمان الكامل فحسب، فإذا كمل الإيمان في القلب استلزم العمل الظاهر، أما أصل الإيمان فيمكن أن يوجد في القلب (قولا وعملا) دون أن يظهر مقتضاه على أعمال الجوارح ...

والمقصود هنا التأكيد على أن القول بنفي التلازم مأخوذ عن المرجئة من الجهمية وغيرهم، وأن المرجئة لا تنازع في كون العمل الظاهر ثمرة ودليلا على ما في الباطن، لكنها تنازع في كونه لازما. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- ١/ ٣٢٢


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٠).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٣٦٣).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٢٠٤).
(٤) رواه أحمد (٣/ ١٣٤) (١٢٤٠٤) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس فيه: (والإيمان أن تؤمن بالله ... ). والحديث ضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (٢٢٨٠)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق ((المسند)).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٥٣).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ١٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>