للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: الأدلة من القرآن على تكليف الجن]

وردت آيات كثيرة تدل على تكليف الجن، وهي على أنواع مختلفة هي:

١ - ما جاء من التصريح في الحكمة من خلق الجن والإنس.

وذلك في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٦ - ٥٧]. فالآية صريحة في أن الله قد خلق الجن والإنس للعبادة، وعلى هذا وردت أقوال العلماء:

قال ابن عباس: (إِلا لِيَعْبُدُونِ أي: إلا ليقروا بعبادتي، طوعاً أو كرهاً)، وهذا اختيار ابن جرير الطبري (١).

وورد عن علي بن أبي طالب, وابن جريج, والربيع بن أنس أن معنى قوله تعالى: إِلا لِيَعْبُدُونِ أي إلا لآمرهم بالعبادة، وهو اختيار الزجاج (٢).

ويدل على ما تقدم قوله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: ٣١] وهي عامة في الجن والإنس. قال ابن كثير: (ومعنى الآية: أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم) (٣).

٢ - ما ورد عن صرف الجن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واستماعهم للقرآن منه.

أ- قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: ٢٩ - ٣١].

فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد صرف الجن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لاستماع القرآن منه، وسواء كان حضورهم إلى مكة – حيث كان الرسول عليه السلام يقرأ القرآن، بعد منعهم من استراق أخبار السماء – أو كان حضورهم بتوفيق من الله هداية لهم، على ما ذكره الإمام الماوردي (٤). فإن في ذلك دلالة على استماعهم للقرآن منه عليه السلام, وانصاتهم لسماعه. قال ابن القيم: وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩]. الآية، تدل على تكليف الجن من عدة وجوه:

أحدها: أن الله تعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه.

الثاني: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه، وأنه يهدي إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له، وأنه هاد إلى صراط مستقيم، وهذا يدل على تمكنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه، والتكليف إنما يستلزم العلم والقدرة.

الثالث: أنهم قالوا لقومهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ [الأحقاف: ٣٠]. والآية صريحة في أنهم مكلفون، مأمورون بإجابة الرسول، وهو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر (٥) اهـ.

وقال الألوسي في قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ (وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون) (٦).


(١) ((تفسير الطبري)) (٢٧/ ٨) ط١ ١٣٢٨هـ.
(٢) ((تفسير القرطبي)) (١٧/ ٥٥) ((تفسير فتح القدير)) (٥/ ٩٢).
(٣) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (٣/ ٣٨٧).
(٤) ((أعلام النبوة)) (ص: ١٤٣).
(٥) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤٢١).
(٦) ((تفسير روح المعاني)) (٢٦/ ٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>