للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: متى يكون الحساب؟ وأين يكون المحاسبون؟]

حينما يبعث الله العباد من قبورهم يخرجون وهم لا يذكرون شيئاً من أعمالهم التي قدموها في حياتهم الدنيا، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز في قوله عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: ٦]

وما أسرع نسيان الإنسان لأعماله التي يعملها هو غافل لا يدري أن هناك من يراقبه مراقبة دقيقة يسجل عليه كل ما يصدر عنه من قول أو فعل.

قال الطبري عن معنى الآية: (يقول تعالى ذكره أحصى الله ما عملوا، فعده عليهم, وأثبته, وحفظه, ونسيه عاملوه، والله على كل شيء شهيد) (١).

فإذا جمعهم الله في الموقف, وأذن بفصل القضاء فيهم أعطاهم الله تلك الكتب ليقفوا على ما فيها، ثم بعد ذلك تبدأ المحاسبة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق: ٧ - ١٠]

وفي تقديم الله تعالى ذكر الكتاب- أو صحف الأعمال – على ذكر الحساب دلالة على تقديم أخذ الصحف على الحساب, وفي هذا يقول القرطبى: (فإذا وقف الناس على أعمالهم, من الصحف التي يؤثرها بعد البعث حوسبوا عليها) (٢).

وقبل حسابهم يمتاز كل فريق عن الأخر, المؤمنون في مكان, وغيرهم من الكفار كل فرقة في مكان, قال الحافظ ابن كثير: (فإذا نصب كرسي فصل القضاء, انماز الكافرون عن المؤمنين في الموقف إلى ناحية الشمال وبقي المؤمنون عن يمين العرض, ومنهم من يكون بين يديه, قال تعالى: وَامْتَازُوا اليوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩]) (٣)

قال الطبري في معناها: (أي تميزوا) (٤).

وقال ابن كثير في معناها: (يقول الله تعالى مخبراً عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة, من أمره لهم أن يمتازوا, بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس: ٢٨]. وقال عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤] أي يصيرون صدعين فرقتين) (٥)

ويقول مقاتل: (معناه: اعتزلوا اليوم – بمعنى في الآخرة – من الصالحين)، وقال السدي: (كونوا على حدة)، وقال الزجاج: (انفردوا عن المؤمنين) , وقال الضحاك: (يمتاز المجرمون بعضهم من بعض, فيمتاز اليهود فرقة, والنصاري فرقة, والمجوس فرقة, والصابئون فرقة, وعبدة الأوثان فرقة)، وقال داود بن الجراح: (يمتاز المسلمون عن المجرمين, إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين) (٦).

وقد أخرج الطبري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة, أمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم, ثم يقول: أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ... [يس: ٦٠] الآية إلى قوله: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. .. [يس: ٦٣] وَامْتَازُوا اليوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩] فيتميز الناس ويجثون وهي قوله تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً. [الجاثية: ٢٨])) (٧).


(١) ((جامع البيان)) (٢٨/ ١٢).
(٢) ((التذكرة)) (ص: ٢٥٥).
(٣) ((النهاية)) (٢/ ١١٠).
(٤) ((جامع البيان)) (٢٣/ ٢٢).
(٥) ((تفسير القرآن العظيم)) (٣/ ٥٧٦).
(٦) انظر: ((فتح القدير)) (٤/ ٣٣٧) هكذا في الكتاب: (فإنهم يكونون مع المجرمين).
(٧) ((جامع البيان)) (٢٣/ ٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>