للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: مفهوم الكفر عند الجهمية]

سبق أن الكفر عند جهم هو الجهل بالله فقط، على ما حكاه الأشعري، ونقله شيخ الإسلام عنه.

فجهم حصر الإيمان في معرفة القلب، وجعل الكفر ما ضاد ذلك، أي ذهاب المعرفة أو التصديق، فلم ير الكفر غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ناقلا عن الأشعري: وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان. قال: وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون الجوارح) (١).

وقال الشهرستاني: (ومنها قوله (أي جهم): من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد فهو مؤمن) (٢).

وجهمٌ وإن حصر الكفر في جهل القلب وتكذيبه، إلا أنه التزم تكفيرَ من أتى المكفرات الظاهرة في الدنيا، والحكم بأنه مؤمن في الباطن من أهل الجنة! إلا من جاء النص على أنه كافر معذب في الآخرة.

قال شيخ الإسلام: (ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا. فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء فإنها عندهم شيء واحد فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع) (٣).

وحصر الكفر في القلب مما ذهب إليه كثير من أهل الإرجاء- من غير الجهمية- أيضا، لكن منهم من لا يقصره على التكذيب والجهل، بل يضيف إليه ما يناقض عمل القلب كالعداوة والاستخفاف.

وهؤلاء جميعا يوافقون أهل السنة في تكفير من أتى الكفر الظاهر كسبِّ الله أو التكلم بالتثليث، أو السجود للصنم، لكنهم لا يرون ذلك كفرا في ذاته، بل هو علامة على الكفر.

ومن هؤلاء أبو الحسين الصالحي، حيث وافق جهما في أن الكفر هو الجهل بالله فقط، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس كفرا، ولكنه لا يظهر إلا من كافر؛ لأن الله كفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر (٤).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٤٣). وانظر زيادة بيان حول مفهوم الكفر عند جهم، والفرق بينه وبين الأشعري، في (٢/ ٢٩٠) من هذا البحث.
(٢) ((الملل والنحل)) (١/ ٧٤).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٤٠١).
(٤) ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ٢١٤)، و ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٤٤)،و ((الملل والنحل)) (١/ ١٤٢)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص١٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>