[المبحث السادس: متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة]
إن الله عز وجل أنعم على هذه الأمة حيث بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الثقلين عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: ١٩]، وقد ((مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (١)، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدل أو منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي: من عربي وعجمي.
فمنهم من بحث عن الحنيفية واعتصم بها، ولكن أغلبهم كانوا مقبلين على عبادة ما استحسنوه، وظنوا أنه ينفعهم؛ من جن, أو وثن, أو قبر، أو تمثال أو غير ذلك؛ والناس في جاهلية جهلاء: من مقالات يظنونها علماً وهي الجهل، وأعمال يحسبونها صلاحاً، وهي فساد، وعبادات يحسبونها من عند الله، وهي من ما زينت لهم الشياطين وتهواها نفوسهم، ووجدوا عليها آباءهم.
فهدى الله الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، وفتح الله بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، بعد أن جاهدهم وجالدهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة لمن كابر وعاند، وكان من أمره صلى الله عليه وسلم مع قريش ما كان، حتى هاجر إلى المدينة، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وجمعهم الله على دين الإسلام؛ دين التوحيد، والملة الإبراهيمية الحنيفية بعد تشتت تام, وعداوة كاملة، وانهيار خلقي, وانحلال ديني, وفساد عقدي.
فألف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخواناً، وكسرت الأوثان والأصنام، وزالت عبادتها على أصنافها، فطمست التماثيل, وسويت القبور المشرفة، وأزيلت المعبودات من دون الله من قبر, وشجر, وحجر, ونصب, وصنم, ووثن، وأبطلت.
وتحررت العقول من دناءة تفكيرها، ووضاعة تصورها، فارتقت إلى التوحيد بعد أن كانت في حمأة الشرك، وأصبحت قلوبهم متجهة إلى الله وحده لا شريك معه غيره؛ لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فأتم الله أمره, وأكمل دينه، وأعلا كلمته، حتى صار الدين كله لله.
فلما تمت نعمة الله عليه وعلى أمته وظهر ما جاء به من الحق، ووضحت الطريقة توفاه الله جل وعلا إليه، والإسلام في تقدم وشوكة تامة وغلبة كاملة، ليظهر على الدين كله.
وكان الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم – يأخذون سلوكهم وأعمالهم وعقائدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحياته هي الإسلام غضاً طرياً، وقد نزل القرآن الكريم بلغتهم ففهموا ما أراد الله منهم، وما احتاج إلى بيان بينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته، فكان الناس أمة واحدة ودينهم قائم في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكشف الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبراً، وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج وكُفِّر سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وكان السبب في ذلك أنه كان هناك دولتان عظيمتان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهما: فارس، والروم، وقد كسر الله شوكتهم، وأزال ملكهم بأيدي الصحابة، وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، فلما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد في آسيا، وإفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية ونصرانية، ومجوسية ووثنية، وغير ذلك.
وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً.
(١) رواه مسلم (٢٨٦٥). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.