للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث السابع: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل]

مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.

وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.

فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحاً ليس فيه دلالة صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مقدماته.

فمن احتج - مثلا- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانا قائما بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولى فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها.

وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق .. )) (١).

ففي هذا الكتاب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله.

وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني .. الحديث)) (٢).

فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص٣٥٩


(١) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (١١/ ١٢٨)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (١/ ١٠٥)، والسيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)) (١/ ١١) كلاهما من طريق الحاكم. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم، وإنه لمن أرك الموضوعات وأدبرها، إذ هو مستحيل لأن الخالق لا يخلق نفسه. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة والموضوعة)) بعد حديث (٧٧٠): منكر.
(٢) رواه مسلم (٢٥٦٩). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>