للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفصل السادس: حدود العذر بالجهل بتوحيد الربوبية]

هذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: ١٠] .... ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور أفضل من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟، فلم يثبتوا ربَّيْن متماثلين.

وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ...

والمشركون من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥]، وقوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: ٨٤ - ٨٥] (١).

فلا شك أن الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأنه وحده المستحق للربوبية أمر فطر عليه الناس وهم في عالم الذر، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٤].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( ... دل على أن الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد) (٢).

ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (٣). قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (لا يقال: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً، كما قال بعضهم) (٤).

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين ... )) (٥).

وبناء على ما سبق من الأدلة الشرعية والأدلة الواقعية على أن الناس فطروا على توحيد الرب عز وجل، أمكن القول أن الحجة على وحدانية الرب تبارك وتعالى وتفرده بالخلق قد قامت عليهم، وهي حجة مستقلة على من أنكر ربوبية الله تعالى أو أشرك معه فيها غيره معه أو دونه، أو ادعى الجهل بها.


(١) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (١/ ٢٥ - ٢٩) بتصرف يسير.
(٢) ((تفسير القرآن العظيم)) (٢/ ٢٧٥).
(٣) رواه البخاري (١٣٥٨)، ومسلم (٢٦٥٨). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (١/ ٣٣).
(٥) رواه مسلم (٢٨٦٥) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>