للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: أهمية التغيير بالقلب]

المنكر لا تقره الشريعة بأي حال من الأحوال، فلابد من تغييره ولكن تغييره على مراتب.

ولما كان الناس يختلفون في قدراتهم الجسمية والعقلية وغير ذلك. فإن الشارع الحكيم رتب إنكار المنكر على حسب قدرة الشخص، ولكن لا يعذر أحد من المكلفين بترك الإنكار مهما يكن من أمر.

فيجب عليه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أقل الأحوال؛ لأن كل إنسان يستطيع ذلك ومن هو الذي لا يقدر على الإنكار بالقلب إلا رجل قد مرض قلبه وانتكس فهذا أمره أشد من قضية الإنكار بالقلب.

والأصل في هذا الحكم. ما رواه الإمام مسلم بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (١).

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (٢) الحديث.

وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم كلام القاضي عياض –رحمه الله- فقال: هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه. أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوبات ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره. إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم فإن غلب على ظنه أن تغييره يسبب منكراً أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى. وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافاً لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي –رحمه الله- (٣).

ومن كان في قلبه حياة وليس في مقدوره أن يغير المنكر بيده ولا بلسانه فعليه أن يكره هذا المنكر ويعلم الله من قلبه الصدق والعزيمة على تمني زوال هذا المنكر ولولا المانع لأزاله.

قيل لابن مسعود -رضي الله عنه-: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً (٤).

فالذي لا يأمر بالمعروف ولا ينكر المنكر بأدنى درجاته فهو ميت القلب.


(١) رواه مسلم (٤٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم (٥٠).
(٣) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) م١ (٢/ ٢٥).
(٤) ((الأمر بالمعروف)) لابن تيمية (ص: ١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>