للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: بدعية طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الخالق عز وجل وذم العلماء لها]

أن الإيمان به تعالى والإقرار بوجوده أمر فطرت عليه القلوب، أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات، فهو سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل، فيطلب الدليل على وجوده.

يقول الحافظ العلامة ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من جود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما" (١).

لذلك لم يكن إثبات وجود الله تبارك وتعالى من حيث هو موجود من الأهداف القرآنية، ولم يكن ذلك هدفاً من أهداف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت الرسل لأممهم: أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: ١٠]. إلا أن القرآن الكريم لم يتجاهل هذه القضية بل نبه إليها، وأشار إلى دلائلها؛ إذ الفطر قد تتغير وتفسد، والإيمان واليقين قد يضعف، فأقام الله عز وجل من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد، فكل شيء يدل على وجود الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة، إذ ما من أثر إلا وله مؤثر، كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال – بفطرته السليمة – البعرة تدل على البعير؛ والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، أرض ذات فجاج، وجبال وبحار وأنهار، أفلا تدل على السميع البصير؟ (٢).

فهذه المسألة – مع منتهى وضوحها وجلائها – تخبط الناس فيها خبط عشواء، وأكثروا فيها القيل والقال، واشتد بينهم النزاع، وطال الجدال.

ويعتبر المتكلمون أكثر من اشتغل بتقرير وجود الخالق عز وجل والاستدلال له، غير أنهم لم يسيروا في ذلك على منهج الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وإنما أتوا بطريقة مخترعة مستمدة من الفلسفة والمنطق اليوناني، فترتب على ذلك مفاسد عديدة في أبواب الاعتقاد. سلك المتكلمون في الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى، طريقة مبتدعة، مذمومة في الشرع، كما أنها مخطرة، مخوفة في العقل، ألا وهي ما يسمونه (دليل الأعراض وحدوث الأجسام).

واعتمدوا فيما نهجوه على الجواهر والأعراض (٣) وما يتعلق بها من الإمكان أو الحدوث أو غير ذلك مما ذكروه، لكون العالم مؤلفاً من أجزاء حادثة، والمؤلف من أجزاء حادثة حادث، والحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلما اختص العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز احتاج إلى موجد وافتقر إلى صانع وهو الله تعالى (٤).

قال الإيجي: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، قد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده أو الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً فهذه وجوه أربعة:


(١) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (١/ ٦٠).
(٢) انظر: ((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)) لابن الوزير (ص: ٨٣).
(٣) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: ٣٩)، و ((التعريفات)) للجرجاني (ص: ٧٩)، (ص: ١٤٩).
(٤) انظر على سبيل المثال والمختصر في ((أصول الدين)) لعبد الجبار (ص: ١٧٢ - ١٧٣)، ((التوحيد)) للماتريدي (ص: ١٢٩، ٢٣١، ٢٣٣)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص: ٣٩)، و ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: ٣٩) و ((نهاية الإقدام)) للشهرستاني (ص: ٥ - ٦)، ((المحصل)) للرازي (ص: ١٤٧)، ((التمهيد)) للباقلاني (ص: ٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>