للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: الاستدلال بحدوث الجواهر، قيل: هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه، حيث قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦]، وهو أن العالم الجوهري أي المتحيز بالذات حادث كما مر، وكل حادث فله محدث كما تشهد بذلك بديهة العقل (١).

وأما إدعاؤهم أن طريقتهم في الاستدلال على وجود الله تعالى بدليل الجواهر والأعراض الدال على حدوث العالم هي طريقة إبراهيم الخليل فيما حكى الله عنه في قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦] فادعاء باطل مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وللغة العربية التي نزل بها القرآن واستدلال في غير محله، فإن أحداً من سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان لم يقل بذلك، كما ذكر الإمام الدارمي، وغيره من علماء أهل السنة؛ بل وبينوا أن هذا من التفاسير المبتدعة (٢).

وقد فسر أئمة المفسرين: الأفول بـ (المغيب) (٣). وكذا فسره أهل اللغة وغريب القرآن بذلك (٤).

ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يكن يقصد الاستدلال بمجرد الحركة على نفي الربوبية، ولو كان يقصد ذلك لكفاه تحرك هذه الكواكب من مشرقها إلى مغربها دليلاً على ما أراد، وإنما استدل بأفولها ومغيبها عن عين عابديها على عدم استحقاقها للعبادة، لأن الذي يستحق العبادة لا ينبغي أن يغيب عن عين عابدة لحظة واحدة، وهذه الكواكب لا تملك لنفسها أن تمنعها من الإحتجاب والمغيب عن أعين عابديها فلا تصلح أن تكون آلهة تعبد من دون الله.

فهذه طريقة إبراهيم عليه السلام في نفي ألوهية الكواكب، وهذا هو مقصوده مما يناقض ما ذهب إليه المتكلمون في تأويلهم الأفول بالحركة والتغير واستدلالهم بذلك لتقرير منهجهم العقلي في إثبات وجود الله المبني على دليل الإمكان والوجوب أو الجواهر والأعراض (٥).

وهكذا نجد المتكلمين يستدلون على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التي هي الصفات أولاً، أو إثبات بعضها كالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وإثبات حدوثها ثانيا، بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثاً، إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً، وهو مبني على مقدمتين:

أحدهما: أن الجسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات.


(١) ((شرح المواقف))، ومعه ((شرح الجرجاني)) (٢/ ٢ - ٣) وما بعدها.
(٢) انظر: ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص: ٥٥)، و ((درء التعارض)) لابن تيمية (١/ ٣١٤).
(٣) انظر: ((تفسير الطبري)) (٥/ ٢٤٦)، و ((تفسير البغوي)) (٢/ ٩٠)، و ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ١٥٦).
(٤) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (٤/ ٦٢٣)، و ((معجم مقاييس اللغة العربية)) لابن فارس (١/ ١١٩)، و ((لسان العرب)) لابن منظور (١١/ ١٨) (مادة: الأفل) و ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: ٢٣).
(٥) انظر: ((درء التعارض)) (١/ ٣١٤ - ٣١٥)، (٨/ ٣٥٥ - ٣٥٦)، (٩/ ٨٢ - ٨٤)، و ((منهاج السنة)) (١/ ٤٤ - ١٤٥)، (٢/ ١٤١ - ١٤٣)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: ٣٠٤ - ٣٠٥)، و ((بغية المرتاد)) (ص: ٣٦٠ - ٣٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>